الاقتصاد اليوم ـ تغطية شاملة للأخبار الاقتصادية على مدار اليوم

 

التصدي للجفاف في سوريا: استراتيجيات لتحقيق الأمن الغذائي المستدام

الاقتصاد اليوم:

تشهد سوريا تفاقمًا مستمرًا للجفاف، مما يشكل تهديدًا مباشرًا لمصادر المياه والزراعة، ويؤثر على سبل عيش الكثير من السوريين الذين يعتمدون على هذا القطاع الحيوي.

وفي ظل المرحلة الانتقالية السياسية التي تمر بها البلاد بعد سقوط نظام الأسد، تصبح مواجهة هذا التحدي البيئي ضرورة ملحّة للحفاظ على استقرار سوريا وضمان مستقبلها. ويأتي ذلك بعد أكثر من عقد من الحرب التي أدت إلى تدمير البنية التحتية المائية، بالتزامن مع ارتفاع درجات الحرارة الناجم عن تغير المناخ، مما يزيد من تعقيد أزمة الموارد الطبيعية في البلاد

وعلى الرغم من أنها لا تعد مساهمة رئيسية في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري فإن سوريا تتأثر بالتغير المناخي العالمي الذي يضرب الشرق الأوسط، مما انعكس خلال السنوات الماضية على زيادة حرائق الغابات وتغيرات في معدلات هطول الأمطار زادت حدة الجفاف في سنوات الصراع.

وتبين دراسة علمية أن احتمال وقوع الجفاف في المنطقة كان قبل ظاهرة التغير المناخي مرة كل 250 سنة، ويزداد ليصبح مرة كل 10 سنوات عند ازدياد الحرارة 1.2 درجة مئوية، وقد يصبح احتمال حدوث الجفاف مرة كل 5 سنوات عند وصول ازدياد الحرارة إلى درجتين مئويتين.

وشهدت سوريا اتجاها متزايدا نحو الجفاف بين عامي 1981 و2021، مع تسجيل أحداث جفاف كبيرة في سنوات 1999 و2010 و2014 و2017 و2021، مما يشير إلى أن الجفاف يتحول من موسمي متقطع إلى حالة ممتدة ومتزايدة الحدة.

وارتبطت هذه الأحداث بشكل أساسي بارتفاع درجات الحرارة وتناقص الأمطار، مما أدى إلى تفاقم التوترات البيئية والزراعية في البلاد، وفق دراسة نشرت مطلع العام الجاري في مجلة "المؤشرات البيئية والاستدامة".

وأكدت الدراسة أن الجفاف الشديد في السنوات الماضية أدى إلى انخفاض ملحوظ في إنتاج المحاصيل، خصوصا في حقول القمح والذرة، مشيرة إلى أنه في عام 2021 تأثرت نحو ثلث الأراضي الزراعية في سوريا بالجفاف، مما أدى إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي.

الجفاف يشتد

لكن التغيرات المناخية لم تكن السبب الوحيد لزيادة معدلات الجفاف في سوريا، فقد أدى الإفراط في استهلاك المياه -خاصة في قطاع الزراعة الذي لا يزال يعتمد على أساليب تقليدية- في استنزاف الموارد المائية المتاحة، وفق الباحثة في علوم المناخ والمشاركة بالدراسة شفا مثبوت.

وأضافت مثبوت أن غياب التخطيط السليم لإدارة الموارد خلال السنوات الماضية فاقم الجفاف، مؤكدة أن النزوح السكاني الناتج عن النزاع في وقت تعاني فيه البنى التحتية للمياه والري من تدهور كبير بسبب الإهمال والأضرار التي لحقت بها خلال سنوات الحرب أدى إلى تفاقم الوضع.

وشهدت البلاد توسعا تدريجيا في رقعة الجفاف بدأ من المناطق الشرقية والشمالية الشرقية الأكثر هشاشة، ليمتد لاحقا نحو المناطق الوسطى والجنوبية الغربية، وصولا إلى مناطق كانت تعتبر شبه رطبة في السابق، وفق ما تشرح مثبوت.

وأوضحت أن المناطق الشمالية الشرقية من سوريا من أكثر المناطق تأثرا بظاهرة الجفاف، لأنها تقع ضمن نطاق المناخ الجاف إلى شبه الجاف الذي يشهد زيادة معدلات التبخر وتراجع رطوبة التربة، في ظل افتقار المنطقة إلى مصادر مائية دائمة.

كما أن اعتماد معظم سكان المنطقة على الزراعة البعلية التي ترتبط بشكل مباشر بتوفر الأمطار أسفر عن اتباع ممارسات استنزاف المياه الجوفية، ولا سيما بعد اندلاع الصراع المسلح، وفق مثبوت.

وأظهر تقرير أصدرته شبكة زوي للبيئة مطلع العام الجاري أن الجفاف في سوريا يمتد نحو مناطق كانت تشهد عموما درجات حرارة معتدلة، وتوقع أن تزيد درجات الحرارة في دمشق بمقدار 5 درجات مئوية بحلول عام 2070، مما يفقد المدينة طقسها المعتدل المعروفة به.

الزراعة مهددة

وحذر التقرير من أن انتشار الجفاف في المناطق الشمالية الشرقية من سوريا أدى إلى انتشار التصحر بالمنطقة، مما قد يهدد بقلة توافر الأراضي الصالحة للزراعة المحدودة أصلا، مما يزيد إجهاد الأمن الغذائي ويلحق الضرر بالاقتصاد.

وهذا العام تأخرت زراعة الحبوب الشتوية بسبب تأخر هطول الأمطار في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وفق منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة.

ومن المتوقع أن يؤدي ذلك مصحوبا بانخفاض كميات الأمطار ومحدودية الوصول إلى الحقول نتيجة التغيرات السياسية والأمنية التي تعيشها البلاد إلى تقليل المساحة المزروعة، مما يشير إلى توقعات إنتاج حبوب أقل من المتوسط ​​في عام 2025، بحسب المصدر السابق.

وذكرت منظمة الأغذية والزراعة الأممية أن إنتاج الحبوب في عام 2024 قُدّر بنحو 3.4 ملايين طن في سوريا، أي أقل بنحو 13% عن متوسط ​​السنوات الخمس، وأقل بنحو 33% عن متوسط ​​ما قبل الحرب، ويعزى ذلك أساسا إلى سوء توزيع الأمطار طوال الموسم وارتفاع درجات الحرارة خلال موسم الزراعة في أبريل/نيسان ومايو/أيار 2024 وتفشي الأمراض وارتفاع الأسعار.

والعام الماضي أيضا تعرّض 32.4% من محصول القمح و32.6% من الشعير لمستويات متفاوتة من الجفاف، مع نسب عالية من الجفاف الشديد والاستثنائي شكّل تهديدا مباشرا للأمن الغذائي، وفق ما تؤكده مثبوت.

وتضيف أن المساحات المزروعة انخفضت بنسبة 15.3% منذ عام 2011، في حين انخفضت المساحات المروية بنسبة 8.5% مساهمة في تفاقم الوضع الزراعي والاقتصادي بالبلاد.

الأمن الغذائي والمائي في خطر

وخلال السنوات الماضية أدى النقص الحاد في الأمطار وارتفاع درجات الحرارة إلى تراجع كبير في إنتاج المحاصيل الزراعية الأساسية، مثل القمح والشعير، مما انعكس مباشرة على الأمن الغذائي وارتفاع أسعار السلع الأساسية.

كما أسهم الجفاف في فقدان عدد كبير من المزارعين والرعاة مصدر دخلهم، فاضطر كثيرون إلى النزوح من قراهم نحو المدن الكبرى بحثا عن بدائل معيشية، بحسب ما تشرح الباحثة المشاركة بالدراسة المذكورة سابقا فاطمة راعي.

ويساهم التغير المناخي في تكوين أزمة الأمن الغذائي في سوريا، إذ يقلل الجفاف من كميات الماء المتاحة للزراعة نتيجة شح الأمطار، كما يزيد ارتفاع درجات الحرارة حاجة النباتات للماء، مما يسفر عن انخفاض معدلات الإنتاج الزراعي والموارد الغذائية، وبالتالي زيادة تكلفة الغذاء وقلة توافره.

وفي أوائل عام 2024 كان ما يقارب 13 مليون سوري -أي أكثر من نصف سكان البلاد- يعانون من انعدام الأمن الغذائي، بما في ذلك أكثر من 3 ملايين شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد، وفق برنامج الغذاء العالمي.

وأشار البرنامج إلى أنه خلال الفترة ذاتها احتاج نحو 16.7 مليون شخص إلى مساعدات إنسانية في مجمل المحافظات السورية، أي ما يزيد على 70% من السكان، وهو أكبر عدد منذ اندلاع الحرب.

كما أدى انخفاض الهطول المطري وزيادة معدلات التبخر إلى تراجع مستويات الأنهار والسدود في البلاد، مما تسبب في نضوب بعض الموارد المائية الجوفية، خصوصا في المناطق الشمالية الشرقية التي تعتمد بشكل رئيسي على مياه الأمطار.

بدورها، تشرح مثبوت أن هذه الفجوة في المياه أثرت سلبا على قدرة السكان على تأمين احتياجاتهم من مياه الشرب والري، مما أسفر عن ارتفاع تكاليف المياه وزيادة اعتماد المجتمعات المحلية على مصادر غير آمنة، وهو ما يشكل تهديدا للصحة العامة ويزيد احتمالية حدوث أزمات اجتماعية.

كما تسببت الحرب في سوريا منذ عام 2011 بتدمير واسع للبنية التحتية المائية، إذ تضررت شبكات المياه ومحطات الضخ والري، خاصة في المناطق الريفية، وأدى ذلك إلى تعطل الإمدادات وارتفاع الاعتماد على مصادر غير آمنة للمياه.

كما أثّر انقطاع الكهرباء على تشغيل مضخات المياه المنزلية والزراعية، مما أدى إلى توقف مشاريع الري الكبرى، بحسب راعي.

وتضيف الباحثة أن الحرب تسببت أيضا بتلوث مصادر المياه وصعوبة صيانتها، مما أدى إلى تدهور حاد في المنظومة المائية وزيادة الأزمات الإنسانية والنزوح وانعدام الأمن المائي.

ويفاقم كل ذلك حجم التحديات التي تواجه الحكومة السورية الجديدة في مرحلة انتقالية تتطلب إعادة بناء الدولة واستقرارها، في ظل العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد المنهكة من الجفاف والصراعات.

التكيف ممكن

وترى راعي أن من أبرز سبل التكيف مع الجفاف في سوريا هو تطوير منظومة رصد ومتابعة دقيقة تقوم على دمج المؤشرات المناخية مع مؤشرات صحة الغطاء النباتي باستخدام تقنيات الاستشعار عن بعد ونماذج المحاكاة المناخية.

وتوضح أن هذا النهج يمكّن من تحديد المناطق الأكثر عرضة للجفاف وتقييم تأثيراته على المحاصيل والنظم البيئية، خاصة في ظل تراجع قدرة محطات الرصد التقليدية نتيجة الحرب.

وتؤكد الباحثة على أهمية اعتماد ممارسات زراعية مرنة مناخيا، مثل زراعة أصناف مقاومة للجفاف، وتحديث تقنيات الري، وتأهيل الأراضي المتدهورة للحد من التعرية والتصحر، داعية إلى زيادة المساحات الخضراء وتشجيع الزراعة الحضرية منخفضة الاستهلاك المائي.

وكان وزير الزراعة السوري أمجد بدر تعهد في كلمة خلال جلسة الإعلان عن التشكيلة الوزارية في الحكومة الجديدة نهاية مارس/آذار الماضي بالعمل على تحقيق الأمن الغذائي.

كما تعهد بالتوسع بالمساحات الزراعية وتوفير الدعم الحكومي لذلك، مع تطوير البنى التحتية ووضع الخطط بناء على الاستدامة واحتياجات البيئة.

وأكد أن سوريا قادرة على التعافي بوفرة الموارد المائية والأراضي الزراعية المتنوعة، متعهدا باستغلالها بالشكل الأمثل لتحقيق معدلات وفيرة من الإنتاج تحقق الأمن الغذائي، في ظل دعم المحاصيل الإستراتيجية وتطوير أنظمة المراقبة.

حاجة للدعم والتعاون

وفي ظل العقوبات المفروضة على البلاد وتأثير دول الجوار على الموارد المائية لسوريا تشير مثبوت إلى أهمية الدور الحاسم الذي يمكن أن يلعبه المجتمع الدولي في دعم دمشق لمواجهة التحديات المناخية المتزايدة.

وتبين أن المجتمع الدولي يمكن أن يساعد سوريا في تطوير أنظمة الإنذار المبكر للكوارث المناخية، وتدريب الكوادر السورية على استخدام أدوات التنبؤ المناخي وتقنيات الزراعة الذكية مناخيا، مما يساعد على تحسين الاستجابة المبكرة وتقليل الخسائر في القطاعات الحيوية كالمياه والزراعة، فضلا عن توفير التمويل الكافي لدعم صغار المزارعين لتبني تقنيات مستدامة.

أما على المستوى الإقليمي فتبرز أهمية التعاون العابر للحدود في إدارة الموارد المائية المشتركة، ولا سيما في أحواض نهري الفرات ودجلة، وذلك من خلال تعزيز الحوار والتنسيق بين سوريا ودول الجوار مثل تركيا والعراق، لضمان تقاسم عادل للمياه وتجنب التوترات المائية، وفق ما تضيف مثبوت.

وتشدد على ضرورة ربط الدعم المناخي بالمساعدة الإنسانية من خلال دعم الأمن الغذائي للفئات الأكثر تضررا عبر تقديم مساعدات طارئة، إلى جانب تنفيذ مشاريع زراعية مجتمعية صغيرة تسهم في تخفيف الفقر وتحقيق الحد الأدنى من الاكتفاء الذاتي.

المصدر : الجزيرة

تعليقات الزوار
  1. تعليقك
  2. أخبرنا قليلاً عن نفسك