مخاوف وتحذيرات من تراجع الأمن الغذائي في سوريا
الاقتصاد اليوم:
تتفاقم أزمة الأمن الغذائي في سورية مع استمرار التطورات الراهنة، لتُضاف إلى الأزمات المتراكمة منذ عهد نظام الأسد. وتُعزى هذه الأزمة إلى عدة أسباب؛ أبرزها التراجع الملحوظ في الإنتاجين النباتي والحيواني نتيجة السياسات الحكومية غير المُرضية للفلاحين والمربين، إلى جانب الأسعار الزهيدة للمحاصيل الاستراتيجية، والتغيرات المناخية التي أثّرت سلباً على الزراعة.
وتُجمع التوقعات من قبل الباحثين والخبراء والمنظمات الدولية على أن وضع انعدام الأمن الغذائي مرشّح لمزيد من التدهور. ففي بيان سابق لها خلال هذا الشهر، أكدت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة "فاو" أنّ التحديات المتعلقة بالأمن الغذائي في سورية لن تزول في المستقبل القريب، وهو ما يستدعي استجابات عاجلة من قبل المؤسسات الإنسانية والجهات الفاعلة في المجتمع الدولي.
ويواجه اليوم نحو نصف سكان سورية انعداماً في الأمن الغذائي، في وقت تتراجع فيه المساحات المزروعة، وينخفض فيه إنتاج الحبوب للموسم الحالي بشكل يهدد الأمن الغذائي على المدى القريب والمتوسط. وقد أشارت المنظمة إلى أن إنتاج الحبوب تراجع في العام الماضي بنسبة 13% من متوسط السنوات الخمس الماضية، و33% مقارنة بالمعدلات التي سبقت عام 2011، وقد جاءت تلك النسبة نتيجة تقديرات المنظمة أنّ إنتاج الحبوب في عام 2024 وصل إلى نحو 3.4 ملايين طن.
يرى الباحث الاقتصادي أسامة القاضي أنه من السابق لأوانه إصدار حكم دقيق حول واقع الأمن الغذائي في سورية، خاصة بعد استلام الحكومة الجديدة مناطق الشمال الشرقي من البلاد.
ويعتقد القاضي، أنّ معظم التقديرات والانطباعات السابقة حول الأمن الغذائي كانت قبل توقيع الاتفاقية مع "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد). ويشير إلى أنه بعد استعادة السيطرة على معظم المحافظات والمدن السورية، وحتى يُبسط النفوذ الكامل على الأراضي السورية، سيكون من الممكن إجراء إحصاء دقيق لكميات القمح المتوفرة، وتحديد عدد الصوامع السليمة غير المدمّرة التي لا تزال تملكها الدولة.
ويشير القاضي إلى أن إنتاج سورية من القمح كان يُقدَّر سابقاً بنحو أربعة ملايين طن، إلا أن الأرقام الدقيقة لم تُعلن بعد، ومن المتوقع صدور بيانات أكثر وضوحاً خلال الشهر المقبل. ويُعزى غياب الإحصائيات الدقيقة حتى الآن إلى استمرار الاضطرابات الأمنية في مناطق الساحل، بالإضافة إلى عدم استلام الحكومة السيطرة الكاملة على أراضي الشمال الشرقي. وأوضح أن سورية كانت تعتمد في السنوات الأخيرة على مساعدات غذائية من دول مثل السعودية وتركيا وغيرها، وخصوصاً في ما يتعلق بتأمين القمح، وقد تستمر هذه الإعانات خلال العام الحالي لتلبية الاحتياجات الغذائية. ورغم ذلك، يؤكد القاضي أنه حتى الآن، لم تُسجَّل أزمة واضحة في توفر الخبز داخل البلاد، إلا أنه يُحذر من أن أي نقص محتمل في القمح قد يترك أثراً كبيراً، لا سيما على مادة الخبز التي تُعد عنصراً أساسياً في المائدة السورية.
ويؤكد المتحدث أنّ الزراعة كانت تساهم بنسبة 34% من الناتج القومي في سورية خلال حكم حافظ الأسد (1971-2000)، إلا أنّ هذه النسبة انخفضت إلى أقل من 16% في عهد بشار الأسد (2000-2024)، نتيجة إهمال واضح للقطاع الزراعي والمزارعين على حد سواء. وشهدت سورية بين عامي 2006 و2008 موجات من الجفاف الشديد، أدت إلى نزوح سكان أكثر من 70 قرية عن أراضيهم. وأشار القاضي إلى أن الزراعة كانت مهمشة بشكل عام، حيث فُرضت على الفلاحين سياسات مجحفة، تضمنت أسعاراً منخفضة للمحاصيل وإجبارهم على زراعة أنواع محددة، ما زاد من معاناتهم. كما ساهم التغير المناخي في تراجع مساهمة الزراعة في الاقتصاد الوطني.
ويضيف أنه في حال تبنّت الحكومة الجديدة سياسة جادة للنهوض بالزراعة من خلال إدخال تكنولوجيا حديثة، والاهتمام بالفلاحين، وإعادة تأهيل الأراضي التي لم تُزرع منذ سنوات نتيجة القصف الممنهج من قبل جيش النظام السابق، يمكن حينها إحياء التربة السورية وإعادة الروح للقطاع الزراعي، "فحالياً لا يُزرع سوى ثلث الأراضي القابلة للزراعة، في حين تُركت مساحات واسعة مهملة وغير مستثمرة، بل إن سياسات النظام السابق ساهمت في تجهيل الفلاحين وإفقارهم بهدف إبقائهم تحت سطوة السلطة"، وفق قوله.
ويؤكّد القاضي وجود تحديات كبيرة أمام جهود الحد من انعدام الأمن الغذائي في سورية، لكنه يرى أنّ الأوضاع قد تتحسن بشكل ملموس إذا ما تم التعاون مع الدول الصديقة والمستثمرين الراغبين في تطوير القطاع الزراعي السوري. ويشدّد على ضرورة أن تمتلك الحكومة الجديدة رؤية واضحة لنهضة زراعية حقيقية، تبدأ بحملات منظمة تهدف إلى تطوير نوعية البذار لتكون من الأفضل عالمياً، وهو ما يمكن تحقيقه بدعم من منظمة الأغذية والزراعة العالمية "فاو"، "شرط الابتعاد عن البيروقراطية والفساد".
ويدعو القاضي إلى اعتماد أحدث تقنيات الري، وإدخال الآليات والمكنات الزراعية المتطورة، مع مراجعة شاملة للهياكل القديمة مثل اتحاد الفلاحين والإرشاد الزراعي، لتفعيل ما هو فعّال منها وإهمال ما ثبت أنه مجرد عبء إداري لا طائل منه. كما يشير إلى أن النتائج الملموسة لهذا التحول قد تبدأ بالظهور مع نهاية العام الحالي، إذا اعتُمدت نماذج وتجارب دولية ناجحة. ويختم بتأكيد أهمية الاهتمام بالثروة الحيوانية، والتعاون مع دول رائدة في هذا المجال مثل الدنمارك، التي تملك خبرات متقدمة يمكن أن تساهم في تطوير هذا القطاع الحيوي في سورية.
من جهته، يوضح الخبير في الشؤون الزراعية أكرم عفيف، أن تدهور الأمن الغذائي في سورية بدأ منذ عهد النظام السابق، نتيجة الضغوط المتزايدة على الإنتاج الزراعي والمزارعين، وارتفاع تكاليف الإنتاج بشكل كبير. فقد زادت حصة المهربين والسارقين مستغلين شح الموارد وحوامل الطاقة. فعلى سبيل المثال، في الوقت الذي كان يُباع فيه ليتر المازوت في مناطق الشمال السوري بـ2000 ليرة، اضطر الفلاحون إلى شرائه من السوق السوداء بـ17 ألف ليرة لتشغيل محركات الضخ، في حين بلغ سعر ليتر البنزين 20 ألف ليرة، مقارنة بـ5 آلاف ليرة فقط في الشمال. ونتيجة لذلك، أصبحت أجرة السيارة التي تنقل العمال إلى الحقول تفوق أجورهم نفسها. (الدولار = حوالى 13 ألف ليرة)
ويضيف عفيف أن التغيرات المناخية ساهمت أيضاً في تدهور القطاع الزراعي، نتيجة انخفاض معدلات الأمطار واحتباسها لفترات طويلة، ما ألحق أضراراً جسيمة بالمحاصيل. كما يشير إلى أن السياسات الحكومية السابقة في التسعير دفعت الفلاحين إلى الخسارة عند تسليم إنتاجهم للدولة، ما أدى إلى تراجع كبير في زراعة القمح.
ويلفت إلى أن هذه التحديات ما زالت قائمة، بل تفاقمت نتيجة غياب الأمان في عمليات نقل الحبوب والعقود الزراعية، وانعدام القدرة على تمويل الإنتاج. ففي ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة، يبلغ سعر ليتر المازوت حوالي 10 آلاف ليرة سورية. ويؤكّد عفيف أن هذه العوامل مجتمعة تهدد بمزيد من الانخفاض في إنتاج القمح خلال الموسم الحالي.
المصدر: العربي الجديد
تعليقات الزوار
|
|