الاقتصاد اليوم ـ تغطية شاملة للأخبار الاقتصادية على مدار اليوم

 

اقتصاد حـرب أم اقتصاد رفاه؟!..المواطن بيـن مطـرقة السوق وسندان المـركزي!

الاقتصاد اليوم:

بعد عدة سنوات من الحرب على سورية، ألم يحن الوقت لمفهوم اقتصاد الحرب أن يظهر على الساحة لدى أصحاب القرار، أم إنهم سيستمرون في التغطية على الواقع الاقتصادي والمعيشي، المأسوي الذي لم يعد يستطيع المواطن معه أن يقتنع بعدم وجود آليات وسياسات وإجراءات للحد من ارتفاع الأسعار، سوى «إجراء التدخل».

 العرض في السوق

بعد سنوات الحرب الطويلة، ليذهب أحدكم إلى الأسواق ويبحث عن «الألبسة الأوروبية المستوردة، الأجبان الفرنسية والدانماركية والهولندية والهنغارية، الزبدة، الكاجو، الأفكادو، العسل، الأحذية الأوروبية، الشاشات التلفزيونية المصغرة، وذات الأبعاد الثلاثية، التجهيزات المنزلية المستوردة و... ولا ننسى السيارات الفارهة من موديل 2015 و2016».

 والسؤال: من مول استيراد هذه السلع والبضائع، وهل هي ضرورة في بلد يعاني من الحرب، ويعاني من تعقيدات دولية وإقليمية، وصراعات داخلية؟!.

وهل لتوافرها في الأسواق، علاقة بسعر البيض والفروج والأرز، والزيوت، والخس والبطاطا وأجور المواصلات، وكسوة الأولاد، ودفاترهم، وكتبهم، وطبابتهم، و.؟!

الإجابة واضحة من أصحاب القرار.

نحن لم نمول كل ما هو غير ضروري ولا بدولار واحد على الإطلاق وما نقوم بتمويله هو مجموعة سلع وخدمات في قوائم محددة ومعروفة وتمثل أولوية استهلاكية لجماهيرنا الصامدة، برغم قسوة الظروف.

والنتيجة أن الجهات المختصة لم تمول سلع الرفاه! لكنها موجودة في السوق، فكيف ذلك؟.

إنه التهريب، كل تلك السلع مهربة، ولم ندفع مقابلها أي دولار، وإن كان ذلك صحيحاً فالمصيبة أعظم، أي إن المهربين لم يدفعوا ضرائب ورسوماً جمركية عليها، وهذا تفويت لحق الخزينة وتساهل أو تغاضٍ عن تحصيله؟ وهذا هو أولاً! أما ثانياً فإننا نتساءل، لماذا لا تصادر؟. من الممول بالقطع الأجنبي؟

والإجابة واضحة ومعروفة من الموارد الخاصة للمستورد أو المهرب «وهنا تداخلت المفاهيم»!

التاجر الذي يبيع هذه السلع بالليرة في السوق المحلية ماذا سيفعل بالليرات، وكيف سيستعيد دورة عمله، أي كيف سيعوض السلع التي باعها بالليرات؟

بداهة سيحولها إلى قطع أجنبي من السوق المحلية ومادامت المصارف العامة أو الخاصة تعتذر عن التمويل، فحتماً سيلجأ إلى السوق المتاح، وهو السوق غير النظامي للقطع، وتالياً يشكل طلباً متواصلاً على القطع الأجنبي، ومع تراجع ومحدودية العرض، ولاسيما بعد احتكار التحويلات الخارجية من قبل المركزي وتسعيرها بنسبة 10% أقل وكحد أدنى من سعر القطع في السوق المتاح.

وتالياً يرتفع سعر القطع الأجنبي بشكل مستمر، ومن خلال قفزات تتلوها تهدئة واستقرار مؤقت، بفعل تدخل المركزي وتالياً نتساءل عن مدى:

كفاءة وفاعلية تدخل البنك المركزي

منذ سنوات عديدة يصر المركزي على بيع كميات من القطع الأجنبي لتهدئة السوق، مؤقتاً، وذلك عبر شركات ومكاتب الصرافة الخاصة، مستبعداً المصارف العامة، الأكثر أمانة على احتياطيات الوطن، فماذا تفعل تلك الشركات؟

الإجابة المنطقية أنها تبيع القطع لمن يرغب. لكن الحقيقة ان الطوابير تصطف أمامها، ويبيعون من يأتيه الدور بعد انتظار طويل تحت المطر أو تحت أشعة الشمس، ويظفر بما يعادل 100-  200 دولار، شهرياً، والبعض امتهن ذلك، وأصبح يقوم بهذا العمل كمهنة تدر دخلاً إضافياً، يساعد على تحمل تكاليف الغلاء. ويستمر البيع ساعتين، ثم يعتذرون من المنتظرين، ويقولون «خلص» لم يعد معنا قطع أجنبي، فيلجأ المضطر إلى البحث عن القطع الأجنبي في السوق المتاح، والذي يزيد فيه سعر القطع عن السعر الناجم عن التدخل في شركات الصرافة، بنسبة 5% على الأقل. ويستمر الحال هكذا، إلى أن يأتي من لديه فائض بالليرات فيعود ويشتري الجزء المتدخل به وهو الجزء القليل، ويغيب عن السوق الجزء الأكبر من القطع المتدخل به، ولا أحد يعرف إلى أين..؟

وذلك بدليل الإجراءات التي أعلنت منذ أيام، والتي ستكفل إيقاف ارتفاع سعر القطع الأجنبي، بل تراجعه بشكل حاد وكبير، فما هي تلك الإجراءات التي فاضت قريحة المركزي بها:

أولاً: إلغاء تعهدات إعادة قطع التصدير، وماذا يعني ذلك! هل التصدير على قدم وساق، في ظل تراجع الإنتاج الناجم عن ظروف الحرب، وكم ستكون عائدات التصدير، حتى تغطي جزءاً كبيراً من حاجة السوق؟ حقيقة الأمر ان هذا القرار سيمكن المصدرين من زيادة أرباحهم، عبر زيادة فارق سعر صرف الليرة عن سعر المصرف المركزي بالمقارنة مع السعر في السوق المتاح.

ثانياً: إلزام شركات الصرافة بشراء مليون دولار، ومكاتب الصرافة بشراء 100,000 دولار، وبيعها للمواطنين، من أجل تخفيض الطلب، وزيادة العرض.

وهذا أمر جديد «إلزام» وكل قرار اقتصادي يكون بالإلزام تكون آثاره مؤقتة وغير صحيحة، وتالياً لن يحل المشكلة لأن إلزامهم بالشراء، لا يعني إلزامهم بالبيع، وهنا جوهر الموضوع.

أين تكمن المشكلة؟

إنها في الفهم غير الدقيق للواقع، ولآليات السوق، إنها في محاباة ذوي الدخول المتحركة على حساب ذوي الدخل المحدود، الذين يشكلون الأغلبية الصامدة من أبناء شعبنا.

الأمر ببساطة ولا يحتاج عباقرة الاقتصاد، كل سلعة مستوردة في سورية، أو مهربة، ستحول حتماً من القطع الأجنبي الذي أنتجه في السابق، أو ينتجه حالياً الاقتصاد السوري، والمصدر الأساس هو الصادرات، تليها تحويلات المغتربين وعائدات السياحة والإعانات والمساعدات والهبات، ويبقى جدار الحماية الأقوى، هو الاحتياطيات، التي يؤكد البنك المركزي أنها لا تزال متوافرة وكافية لتوفير مستلزمات الاقتصاد الوطني، ومتطلبات الحرب.

وتدعمه الحكومة في ذلك، وهذا أمر جيد وحسن، ونتمنى أن تكون الاحتياطيات بخير، استجابة لقاعدة ومقولة إن البنك المركزي هو المقرض الأخير، سواء للمصارف أو للحكومة.

مادامت المشكلة واضحة، فلماذا يصر المركزي على نوع واحد من الدواء، ثبت عدم نجاعته، أو أن العامل الممرض تعود عليه، وتالياً أصبح عديم الفعالية.

ألم يصبح واضحاً للقاصي والداني، عدم كفاءة القائمين على إدارة السياسة النقدية خاصة والمالية عامة، أم أن المركزي، صدق تصريحه بوجود عدة تقارير عالمية تشيد «بحنكة» السياسة النقدية، وهذا التعبير شائع في السوق، لكنه مستهجن في أدبيات الاقتصاد.

ألا توجد حلول وإجراءات وسياسات أخرى؟

بالطبع نعم، لكن ذلك يتطلب معرفة الواقع والاطلاع على حقيقة المعطيات والموارد، والاستخدامات وغيرها من التفاصيل التي تمكن المختص من طرح أفكار وإجراءات يمكن أن تكون أكثر نجاعة، وبشكل عام توجد إجراءات قسرية يمكن اتخاذها، وإجراءات تنفيذية، تتكامل مع بعضها بعضاً، لتولد سوقاً مستقرة للقطع الأجنبي، ولمستوى الأسعار الاستهلاكية.

إذاً، يمكن اللجوء إلى مفهوم القرض الإلزامي، والاقتراض من المصارف الخاصة، وطرح سنوات دين حكومي، سواء بالقطع الأجنبي أو بالليرة وبأسعار فائدة حقيقية تزيد على معدل التضخم المتوقع، إضافة إلى ضرورة تحريك أسعار الفائدة والخصم لجذب المدخرات، مهما كانت التكلفة المالية.

كما يمكن الاقتراض من الأصدقاء، من الدول الداعمة بأسعار فائدة مغرية، وبضمانات حكومية كافية.

كما يمكن اللجوء إلى إجراءات أخرى، حسب توافر المعلومات ومنها الأموال السورية بالقطع الأجنبي، المهربة إلى الخارج، أو العائدة للمصارف الخاصة، التي سمح لها باستثمار 50% من مواردها، لدى الفروع المراسلة، أي خارج الحدود. الحل ممكن لكنه لدى أهل الحل.

أين دور مجلس النقد والتسليف؟ ولماذا هو مغيب؟ أين دور "وزارة المالية"، و"إدارة الجمارك،" و"الهيئة العامة للضرائب" و"وزارة الاقتصاد"، و"وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك"، والجهات ذات العلاقة بالأمن الاقتصادي؟.

لتهدئة السوق، وتعزيز مقومات الصمود، لابد من تكاتف الجهود، وتحمل المسؤوليات، لكن انعدام الخبرة، أو ضعفها يجعلنا نشكك في قدرة المعنيين على اتخاذ تدابير ناجحة، ومن متابعتنا لهم، فهم سيستمرون في الغرق في التفاصيل، والأعمال الروتينية، والاجتماعات، واللجان،و....

الوضع أصبح خطراً ولم يعد في الإمكان التحمل أكثر، المطلوب اقتصاد حرب، لا اقتصاد رفاه، والمزاوجة بينهما تعني إضعاف قدرات البلاد والعباد.

المصدر: صحيفة "تشرين"

د.أكرم محمود حوراني
استاذ في جامعة كلية الاقتصاد

تعليقات الزوار
  1. تعليقك
  2. أخبرنا قليلاً عن نفسك