الاقتصاد اليوم ـ تغطية شاملة للأخبار الاقتصادية على مدار اليوم

 

الحاكم الجديد لمصرفنا المركزي..من التنظير إلى التنفيذ والرهان على التطبيق

الاقتصاد اليوم:

كتب الدكتور دريد درغام في صفحته على “فيسبوك” بلغة تجمع بين الأدب والاقتصاد (الأدب الاقتصادي قد يكون مصطلحاً جديداً نحتاجه داخلياً) لكنها “مقرَّشة” بنقود رمزيتها المسكوبة بخاطرة القول، معلقاً على فترة تصريف الأعمال للحكومة، وتحت عنوان “في الوقت المستقطع…!” الآتي:

ترتفع أرقام..، تكسر خواطر دون جبرها..، وترفع الكلفة في الكثير من المواقف..، في مرحلة تصريف الأفعال يمكن تصريف كل الأعمال بما فيها الممنوعة من الصرف..، وبانتظار السكون..، لا يبقى للعابرين من خلف الضباب (ممن لا يهمّهم ظرف زمان أو مكان) سوى تباشير تخفيض لن يكفي..، وكذلك بواقي إعراب الأحرف المشبهة بالفعل..؟، وما أدراك ما تقوم به هذه الأحرف… العجيبة!!.

أردناها مقدمة منه لمادة له وعنه، كتبها والعلم عند الله خلال مشاورات تشكيل الحكومة الجديدة، أما وقد نال الثقة والتكليف بإدارة مصرف سورية المركزي كحاكم له، فقد توجب التذكير بما كان له من رؤية ورأي وتنظير، وحتى نقد لسياستنا المالية والنقدية التي كان نشرها العام الماضي، والذي هو الآن في موقع يضعه أمام تحدي تطبيق وتحقيق ما نظَّر له، وهنا لن نحسده على الموقع الذي تقلّده، بل سندعو له متمنين  أن يكون خير خلف لخير لسلف، مادين يد المساعدة والمساهمة الإيجابية التي تقتضيها المصلحة الوطنية في دعم رمز صمودنا الاقتصادي “الليرة السورية” الأمانة الأثمن والأثقل.

الحلول الممكنة

قال درغام الحاكم في الحلول الممكنة: من المستغرب الحديث عن إعادة الإعمار في وسط الحرب، ولنتذكّر أن المصاعب الحقيقية تبدأ عند انتهاء الحروب وليس قبلها. وتبيّن تجارب الدول المجاورة أن انتهاء حروبها لم يؤدِ إلى الانتعاش الاقتصادي “العادل” الذي حلم به الجميع (لبنان والعراق أمثلة واضحة)، لذا لا بد من حلول مناسبة لطمأنة الأجيال الحالية والقادمة، وهذا ما يتطلّب مجموعة قليلة من الأهداف يمكن من خلالها تحريك القطاعات المتبقية بما يضمن العيش الكريم للسوريين، وكلما تأخر تطبيق حلول جذرية بالإمكانات المادية المتاحة تفاقمت المشكلات وأصبحت تكلفة معالجتها أكثر فداحة.

ولنتذكر أن أزمة الثمانينيات الاقتصادية لم تحلها إجراءات التقنين أو الترشيد أو ملاحقة وسجن صرافي السوق السوداء، بل القرارات الاستراتيجية المرتبطة بالأمن الغذائي والانفتاح على الغير، وغيرها من الانعطافات التي ترافقت مع تغيّر ظروف السياسة والاكتشافات البترولية التي سمحت بزيادة لافتة للإنفاق الحكومي.

وتتطلب ظروف الحرب الحالية الحديث عن إجراءات تم تنفيذها بدلاً من حملات إعلامية عن نوايا لا تُنفذ، ويتطلب الأمر خطة استباقية وليس علاجية، وبمحاور قليلة ومحددة تقنع السوريين بأهمية التكافل، وإلا سيكون انفجار اللغم الاقتصادي هو الأخطر. ويفترض بالتغييرات أن تتناول قطاعات محددة قادرة على إحداث تغييرات لاحقة في غيرها من القطاعات.

السياسة الضريبية والتغيير

ومن هذه التغييرات ذكر درغام وجوبها في السياسات الضريبية، إذ رأى أنه لا يمكن في الظروف الحالية المطالبة، أو الاكتفاء برفع نسب الضرائب، أو الاعتقاد بأن المشكلة تكمن في إزالة الدعم. وبالمقارنة مع تجارب الدول الأخرى في إدارة اقتصاد الحروب، نجد أن إدارة سورية لاقتصاد الحرب غريبة، ولا يدلّ نشاط القطاع المدني فيها على أنها في حرب على الإطلاق. ويبدو أن هناك إشكالية في التواصل بين الحكومة والقطاع المصرفي (وأيضاً باقي الجهات ذات الفوائض عموماً)، فلا الحكومة ترغب بالاقتراض منه خوفاً من تزايد أعباء الفوائد عليها، ولا المصارف الخاصة (أكثر من العامة) ترغب بالاكتتاب على سندات خزينة بالحجوم المطلوبة لأسباب مرتبطة بسياساتها الداخلية وسياسة مصارفها الأم. ويؤدي ذلك إلى استمرار الحكومة في إدارة النفقات الجارية مع إهمال متزايد للنفقات الاستثمارية الضرورية لتدعيم مقومات نجاح اقتصاد أي حرب.

وفي الحروب الكبرى ركزت الولايات المتحدة على القطاعات المحورية، وكان للإعلام دور مهم في اقتناع الجمهور والمصارف بقرارات الحكومة، فكان الاكتتاب على سندات الحكومة والترشيد التلقائي لدعم نفقات الحرب رغم زيادة الضرائب؛ وكانت النتيجة تحوّل معظم البنى الإنتاجية الخاصة لتلبية متطلبات الحرب. أما ألمانيا، ورغم انتهاكها لمعاهدة فرساي، فقد استطاعت استخدام اقتصاد الحرب لتحقيق تنمية اقتصادية غير مسبوقة (أمّنت ازدهاراً وفرص عمل، لكنها بالمقابل رتبت ديوناً مرتفعة على الحكومة).

ويضيف: في الوقت الذي نجد فيه معظم الدول تقترض بكثافة في أوقات الحرب، نجد أن السياسة النقدية والمالية في سورية مهتمّة بالوصول إلى موازنة متوازنة أكثر بكثير من اهتمامها بتغيير وجهة دفة الاقتصاد ومراجعة الأنشطة الموروثة من أزمنة بالية. لذلك يُستغرب في السياسة الحالية للحكومة استمرار التقشف غير المجدي، وتجنّبها الاقتراض الطبيعي (وتركيزها على الاقتراض “السهل” من المركزي)، وتقشفها المكثف في مجالات لا ينتج عنها وفورات حقيقية. لذا فالمطلوب -وفق درغام- تغييرات جذرية وسريعة يظهر مفعولها بأسرع وقت ممكن.

ثلاثيته في السياسة النقدية

من تلك التغييرات المطلوبة -بحسب الحاكم الجديد- التغيير في السياسة النقدية، وذلك من خلال الآتي:

أولاً: تحويل التقاص من يدوي (يستغرق عدة أيام حالياً ولا يشمل إلا العملة المحلية) إلى مؤتمت (قابل للتنفيذ بحدود 15-30 دقيقة). وتتوافر منذ سنوات مقومات تنفيذ هذه المهمة، وتنفيذها يعني الاستغناء عن نسبة كبيرة من الأوراق النقدية، وتجنّب إجراءات مكلفة لكل من التّجار والحكومة والمصارف (بما في ذلك النقل والصيانة والعدادات والتأمين..). وهذا التقاص يمكن له أن يشمل العملات الأجنبية التي تقوم المصارف السورية حالياً بإجراءات المقاصة فيها عن طريق المصارف الأجنبية!.

ثانياً: اعتماد الدفع بالجوال بطرق تسديد سهلة وفعّالة: لن ينجح أي نظام فوترة يتحكم به “البائع”، لأنه في ظروف الفساد والتهرّب الضريبي في سورية، لن يمنح الفاتورة، وسيفضّل النقود الورقية. لذا لا بد من بنية دفع لا يمكن للبائع تعطيلها أو رفضها، وتتيح لـ”المشتري” التسديد بسهولة عبر ربط رقم حسابه المصرفي برقم جواله. أما البائع (مطعم، مكتب، طبيب..) فيخصّص برقم مميّز يوضع في مكان ظاهر، ويكون مرتبطاً بجواله ورقم حسابه، وعندها يمكن لكل شخص تسديد أي عملية شراء لا يتجاوز مبلغها 10-20 ألف ليرة مثلاً (النموذج الأولي موجود منذ 5 سنوات).

أما العمليات الكبيرة فيمكن إجراؤها عبر منظومة تحويل مصرفي سريع خلال سنتين بتكلفة متواضعة (وهي منظومة مختلفة جذرياً عن تجربة الرواتب عبر الصرافات التي يشتكي كثُر منها)، وبذلك لا حاجة لسحب الراتب طالما بالإمكان التسديد لجميع أنواع المدفوعات اليومية، وكذلك التحويل بين الأقارب والأصدقاء. وسيسمح ذلك بفرض نسبة ضريبة مقبولة على المبيعات قابلة للتحصيل الفوري (الحصيلة الجديدة أو الضريبة السابقة أيهما أعلى)، وتُلغى بالمقابل الضرائب الأخرى المكلفة، والتي تتسبّب بتذمر المعنيين من طريقة التقدير والتحصيل، ويمهّد ذلك لسياسة ضريبية ونقدية أسهل وأرخص وأوضح وأكثر فاعلية تجاه أنشطة اقتصاد الظل.

ثالثاً: ليست الأولوية لتبني سياسة ليرة ضعيفة (مصلحة المصدّرين)، أو قوية (مصلحة المستوردين)، وإنما الأولوية لترتيب البيت الداخلي بطريقة تمنع الارتجال بالقرارات، وتسمح بمنظومة معلومات يمكن البناء عليها في أي قرار نقدي أو مالي على مستوى الدولة. وهذا الأمر يتطلّب إعادة هيكلة الكثير من الإجراءات، وتعريف الأولويات التي تناسب سورية ولا تغرقها في بنى وإجراءات وتقليد أعمى لما يقوم به الخارج في ظروف عيش سليمة وميسورة تخصه!.

أما عن زيادة الرواتب، فلا ننسى أن الجزء الأكبر من السوريين ليس لديهم وظيفة، ومنهم من كان يعيش من التعامل مع القطاعات الحكومية التي انخفضت أنشطتها بشكل حاد. لذا، وعند تنفيذ تغييرات جذرية في الاقتصاد، سيكون بالإمكان زيادة الرواتب دون زيادات تأكلها مسبقاً بالأسعار، أما غياب هذه التغييرات اللازمة لشفافية المنظومة الاقتصادية، فسوف يؤدي إلى فلتان أكبر في الأسعار وسحق لسواد الشعب، وخاصة في ظل حرب لن تعرف حقيقة ما دمّرته إلا بعد أن تضع أوزارها.

تسمح بالتركيز..

تضمن هذه المقترحات -برأي الدكتور درغام- أرضية فعّالة لتغيير السياسة النقدية والضريبية، فهي تحقّق التحول التلقائي للجزء الأكبر من الضرائب ليصبح على الاستهلاك، وخاصة عند الشراء من تجار التجزئة والمهنيين وأصحاب الحرف، وهذا يعني إمكانية المطابقة بشكل أكبر مع مختلف حلقات الإنتاج. وسيكون تحقّق الضريبة على المبيعات فوري التحصيل، ما يمهّد لسياسة ضريبية ونقدية أسهل وأرخص وأوضح وأكثر فاعلية حتى في اقتصاد الظل. كما أنها مقترحات تسمح بتركيز الجهود على القطاعات القاطرة التي ستسهم بتحريك لاحق لباقي القطاعات، في إطار أعلى من وضوح التوجهات إلى مستقبل تعود فيها النقود لتصبح أداة قياس على المستوى الميكروي والماكروي، ما يعني مجتمعاً أكثر عدالة وأقل فساداً. وكذلك ستساهم هذه المقترحات –إن تمّ تطبيقها– في توفير بنية استعلامات مهمّة عن سلوك المستهلكين ودراسات السوق ومعرفة تصنيف أي تاجر من واقع التدفقات النقدية، ما يسهل على الموردين أو المقرضين معرفة تطور تصنيف زبائنهم بشكل أفضل. ونظراً لأهمية هذه الإجراءات على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، والأمني أيضاً، لا بد من التأكد من متابعة شركات الاتصالات لتخصيص الجزء الأكبر من عتادها وكوادرها لأغراض تبسيط الإجراءات وتحقيق الوفورات المذكورة أعلاه.

الأكثر قابلية

ويخلص درغام إلى أنه وبعد أن أثبتت السياسات العلاجية عدم جدواها، أمل أن يكون ما تقدّم مقدمة لحوار أعمق للوصول إلى حلول ناجعة، مؤكداً أنه ومهما كانت الطبيعة التكنوقراطية لهذه الحلول، فإنها تبقى الأكثر قابلية للتطبيق واجتماع السوريين حولها بما يخصّ تحسين معيشتهم، وهو أمر ممكن بعيداً عن الصراعات السياسية، وفي ظل بنية تكنوقراطية تهتم بمقاربات قادرة على التركيز على ما يجمع المواطنين، ويدعم شعور الانتماء لديهم، وقناعتهم باهتمام جديّ بهواجسهم المتزايدة في ظل الظروف المأساوية الحالية.

المصدر: صحيفة "البعث"

تعليقات الزوار
  1. تعليقك
  2. أخبرنا قليلاً عن نفسك