تجارة الخدمات وتأثيرها على القطاع المصرفي السوري
الاقتصاد اليوم:
شهدت الفترة التي سبقت الأزمة تزايداً واضحاً في الأهمية النسبية لقطاع الخدمات في الناتج المحلي الإجمالي، فقد صار يشكل 42% منه عام ،2010 وشغل في العام نفسه 39% من مجموع القوى العاملة في البلاد(1).
وقد تجلت أهمية القطاعات الخدمية للاقتصاد السوري فيما تسهم به من زيادة الطاقة الاستيعابية للاقتصاد، فالقطاعات الإنتاجية تحتاج في توسعها إلى خدمات تدعمها كالنقل والتخزين والتمويل.. إلخ، لذلك يمكننا القول إن التوسع في قطاع الخدمات يجب أن يأتي موازياً للتطور الإنتاجي في القطاعات السلعية، ويمكننا أن نتبيّن ذلك في ضوء ثلاثة مؤشرات أساسية تتمثل في الآتي:
* الروابط الخلفية للقطاع الخدمي، أي درجة اعتماد القطاع الخدمي على منتجات غيره من باقي القطاعات الاقتصادية.
* الروابط الأمامية للقطاع الخدمي، أي أهمية مخرجات هذا القطاع باعتبارها مدخلات في قطاعات أخرى للاقتصاد الوطني.
* المدخلات الوسيطة للقطاع الخدمي، وما إذا كانت محلية أو مستوردة، وتأثير ذلك على ميزان المدفوعات (2).
ويمكن تصنيف قطاع الخدمات في مجموعتين رئيستين هما:
- قطاعات الخدمات الإنتاجية، وتشمل التجارة والنقل والمواصلات والتمويل والتأمين والمصارف.. إلخ.
- قطاعات الخدمات الاجتماعية، وتشمل المرافق والخدمات الحكومية.. إلخ.
وتشكل القيمة المضافة للخدمات الإنتاجية في سورية نحو 56% من القيمة المضافة الإجمالية لقطاع الخدمات، في حين تسهم قطاعات الخدمات الاجتماعية في توليد 44% منها(3).
يعد قطاع الخدمات الحكومية في سورية القطاع الخدمي الرئيسي، إذ يستأثر بنسبة وازنة من الناتج الإجمالي، وهذا يأتي انعكاساً لاتساع دور القطاع الحكومي في الأنشطة الاقتصادية، إلا أنه قد لوحظ تراجع له في السنوات الأخيرة التي سبقت الأزمة، وقد وصل ناتجه المحلي عام 2010 إلى 191 مليار ليرة، وعاد ليتباطأ في الأعوام اللاحقة مسجلاً نحو 125 مليار ليرة عام 2013 (4).
أما قطاع الخدمات التوزيعية (التجارة والمطاعم والفنادق فقد استحوذت على نسبة ليست كبيرة بشكل عام، إلا أنه قد لوحظ زيادة فعالة له في الفترة الأخيرة التي سبقت الأزمة أيضاً، فقد بلغت كما تشير الإحصائيات الرسمية نحو 8,16% من الناتج المحلي في عام 2010.
ويرتبط نمو قطاع النقل والمواصلات والتخزين أساساً بالنشاط الإنتاجي للقطاعات الصناعية بوجه عام، وبالرغم مما حققه قطاع النقل والمواصلات من ارتفاع معدل نمو قيمته المضافة، إلا أن نصيبه بقي قليلاً بالنسبة للناتج المحلي.
أما ما يتعلق بقطاع التمويل والتأمين والمصارف، فقد كان في أفضل حالاته عام ،2010 إذ بلغ الناتج نحو 88 مليار ليرة سورية، لكنه تراجع إلى 56 ملياراً عام 2013 (5)، وانحصرت مساهمته عند حدود 5-6%.
وفيما يتعلق بقطاع الاتصالات، فقد زادت مساهمته من 8% عام 2006 إلى15% عام 2013.
أما قطاع البناء والتشييد، فقد حافظ على مساهمة مستقرة في الناتج، بنسبة 4% طيلة الفترة المذكورة (6).
وفيما يتعلق بالقطاع السياحي، فقد طرأ عليه تطور ملموس، إذ وصلت قيمة الاستثمارات السياحية التي وضعت في الخدمة عام 2008 نحو 6,5 مليارات ليرة، ووصلت قيمة الاستثمارات التي هي قيد الإنشاء في الفترة نفسها إلى 47 مليار ليرة (7)، واستمر هذا التطور بالتصاعد إلى عام ،2011 إلا أنه تراجع تراجعاً كبيراً منذ بداية الأزمة.
من كل ذلك يتضح أن أغلب أنشطة القطاع الخدمي السوري مازالت محدودة ومتركزة في القطاعات الخدمية غير القابلة للتجارة، وذات القيمة المضافة المنخفضة ومستويات المهارة المحدودة، ولذلك فالملحوظة اللافتة للانتباه هي أن سورية مستورد صافٍ للسلع الرأسمالية ومنتجات التكنولوجيا الحديثة في الصناعة، وفي الخدمات، ومن ثم فهي مستورد صافٍ للخدما ت الإنتاجية المصاحبة أو المندمجة في هذه السلع مثل الخدمات المالية والمصرفية والتأمين والمعلومات والبحوث والتطوير والاستشارات والتصميم الفني والهندسي.. إلخ. الأمر الذي أثّر على الوضع الخارجي للاقتصاد السوري بوجه عام، وأسهم في استمرار العجز في ميزان الخدمات في السنوات الأخيرة.. لذلك فإن أغلب المنشآت العاملة في قطاع الخدمات في حاجة لإعادة هيكلة بنيتها المؤسسية والاستفادة من الوسائل والأدوات التكنولوجية في إنتاج خدماتها وتقديمها وتسويقها والترويج لها في الأسواق العالمية.
التحرر المالي والاقتصاد السوري
إذا كان القطاع المصرفي السوري قد اعتاد على العمل خلال الفترات السابقة في مناخ خالٍ من المنافسة الحرة، وفي ظل قوانين حمائية تمنع أو تعرقل دخول المؤسسات المالية الخارجية في السوق المحلية، الأمر الذي تمخض عن ضعف الإنتاجية وتدني كفاءة المنتجات، نتيجة تراخي المنتجين وتقاعسهم عن التجديد والابتكار وتطوير الأداء، فإن انفتاح السوق السورية مع التوسع في تحرير تجارة الخدمات، وضع مؤسساتها المحلية في مواجهة تحديات كبيرة. وعلى الرغم من صحة القول إن عولمة قطاع الخدمات المالية سوف ييسّر حركة الرساميل، واستقطاب الاستثمارات وتطور تكنولوجيا المعلومات وثورة الاتصالات، إلا أنه كان على مؤسسات البلاد المحلية قبل أن تقوم بعملية الانفتاح، ولكي تواكب هذه المتغيرات وتتجاوب معها، أن تعزز قدراتها التنافسية لضمان المحافظة على حصتها السوقية بل ونموها، وذلك من خلال رفع إنتاجيتها وتخفيض التكلفة أو تميّز المنتج بالمقارنة بنظائره في المؤسسات الأخرى، وهذا لم يتحقق بصورة حسنة، الأمر الذي أدى إلى ضعف منتجات هذه المؤسسات المحلية أمام منافسة الواردات.
إن تحفّظ سورية في فترة سابقة على دخول مؤسسات مالية ومصرفية أجنبية كان يرجع إلى التخوف على المؤسسات المصرفية والمالية والوطنية من المنافسة الأجنبية، إلا أن مثل هذه الحجة ما كان ينبغي أن تكون على حساب القطاع المصرفي الوطني من فرض التنافس مع مؤسسات مصرفية أكثر تقدماً في أساليب الإدارة والتكنولوجيا والخدمات، على ألا تنسينا المحاذير والمخاطر التي ينبغي التحوط لها والعمل على تجنبها، ويكفي الإشارة إلى أن كثيراً من الأزمات المالية الاقتصادية التي تعرضت وتتعرض لها عدة دول في العالم الناشئ من الأزمة في جنوب شرق آسيا، مروراً بالأزمة في دول أمريكا اللاتينية، وصولاً إلى الأزمات الروسية والبرازيلية وغيرها، كلها تشير إلى أن تحرير القطاع المالي في بعض الظروف قد كان سبباً هاماً في تعرّض الدول المعنية لأزمات مالية ونقدية واقتصادية حادة.
إن هذه التطورات تستلزم من المؤسسات المالية السورية وعياً أكبر بالمستجدات على الساحة المالية والمصرفية، وتحتاج إلى السرعة في التجاوب مع التطوير المطلوب في التشريعات المالية والمصرفية الحديثة، وضرورة تعزيز إجراءات الإشراف والرقابة المالية والمصرفية التي أصبحت تشكل تحدياً هاماً للدولة الوطنية السورية. وإن الأمانة العلمية تقتضينا أن نذكر بأن المصارف السورية الحكومية بوضعها الراهن غير مهيأة لمواجهة المنافسة الحادة مع المؤسسات المالية العالمية، ويستلزم الأمر دعم قدراتها الذاتية، وبذل المزيد من الجهود المنظمة لزيادة كفاءتها لمواجهة التطورات الجارية على الساحة المصرفية الدولية وتطوير ما تقدمه من خدمات مصرفية وتحديثها.
القدرة التنافسية للقطاع المصرفي السوري:أبعادها ومحدداتها
إن صغر الحجم للبنوك السورية مقارنة بالبنوك الدولية الكبرى ينعكس، دون شك، على قدرتها التنافسية، مع ذلك فقد يكون من الحكمة النظر إلى تحرير التجارة الدولية للخدمات (خاصة في القطاع المالي) من جانبيه (مزاياه ومحاذيره).
على الجانب الإيجابي يمكن أن نرصد المزايا التالية:
- إن تعزيز المنافسة يؤدي إلى تحفيز المؤسسات الوطنية لتطوير قدراتها في إنتاج خدماتها، وتحسين كفاءة أدائها وتهيئة الظروف لتحسين خدمات الوساطة المالية، وزيادة فرص الاستثمار وتوفير المناخ الملائم لتخصيص الموارد وتوظيفها في القطاعات والأنشطة الأكثر أهمية، وتدفع السلطات المسؤولة إلى تركيز الاهتمام بكفاءة على إدارة الاقتصاد الوطني وتصميم السياسات الاقتصادية المناسبة، ورسم سياسات الإشراف والرقابة الخاصة بالقطاعات المالية، وتوسع من إمكانات نقل المعرفة والتكنولوجيا التي تشمل الممارسات المتقدمة في القطاع المالي، وخاصة في مجال الإدارة والمحاسبة والتعامل مع المعلومات والأدوات المالية الجديدة، وتقلل المخاطر التي قد تتعرض لها الأسواق المالية الصغيرة، وتخفف من تعرضها للصدمات المالية.. إلخ.
ورغم كل تلك المزايا والإيجابيات، فإن التفاؤل الحذر هو ما يجب الالتزام به عند قراءتنا لمستقبل القطاع المالي السوري، فيما لو حررت تجارة الخدمات كاملة. من الضروري الحذر من الضغوط التنافسية المتوقع مواجهتها من قبل الشركات العملاقة في السوق المحلية، والتي تشكل أهم التحديات التي يجب التصدي والاستعداد لها، وهذا يتطلب تقوية قاعدة رأسمال المصارف الوطنية، مما يجعلها قادرة على المنافسة وتأهيل العاملين بالمصارف، وتطوير أدائهم وتدريبهم على المستجدات في الصناعة المصرفية، والعمل على إنشاء شبكة معلومات واتصالات متطورة، والالتزام بمعايير الإفصاح والشفافية، وكذلك الاتجاه نحو خلق تحالفات مصرفية، أو كيانات مشتركة تتيح إقامة مؤسسات مالية ومصرفية كبرى قادرة على المنافسة الدولية.
لاشك أن ذلك كله يمهد للنهوض بالتجارة الوطنية، ويدفع بالبلاد على طريق التطور الاقتصادي الشامل الذي لا غنى عنه، من أجل تحقيق التنمية الاجتماعية التي تشكل أساساً في حل الأزمة السورية، الذي أصبح ضرورياً ولا يقبل التأجيل.
المصدر: صحيفة "النور"
تعليقات الزوار
|
|