دير الزور.. والموت البطيء..باع سيارته بكيسين من السكر!
الاقتصاد اليوم ـ صحف:
ثمانية أشهر ومدينة دير الزور في صراع مع الموت الذي غرز مخالبه في شوارعها وأسواقها وعلى أطراف أحيائها، والخواء لم يعد يستهدف البطون، بل امتدت أذرعه إلى كل مرافق الحياة في المدينة، فأصاب المرفق الصحي، فبدأت العديد من الصيدليات بالتوقف عن العمل وأغلقت أبوابها أمام آلاف المرضى والمحتاجين للدواء بدعوى عدم توفر الدواء لديها. وانقطاع مورّدي الدواء منذ أشهر عن بيع الدواء لعدم توفر المواصلات بسبب الحصار الظالم على أحياء المدينة.. وهكذا بدأت أعداد الصيدليات تتناقص يوماً بعد يوم في المدينة، حتى غدت أقل من أصابع اليدين، بعد أن كانت المدينة تزخر قبل الحصار بعشرات الصيدليات المنتشرة في الشوارع والحارات والأسواق.. فمن المستحيل أن تجد حياً داخل المدينة أو شارعاً من دون وجود صيدلية فيه.
ومع تقلص أعداد الصيدليات ظهرت أزمة الدواء وصعوبة الحصول على الأدوية الضرورية للقلب والسكري والأمراض الخبيثة والسيرومات وغيرها، مما دفع بأهالي المرضى بالسعى الحثيث إلى إخراجهم من المدينة لإنقاذ حياتهم بأي ثمن كان.
كما شكل النزوح الكبير لأطباء الاختصاص من المدينة خواء جديد في المرفق الصحي، إضافة إلى إغلاق الصيدليات، فلم يعد في المدينة مختصون في الأمراض الصدرية والدموية والقلبية وغيرها، ومن تبقى من هؤلاء الاختصاصيين يسعى بكل جهد ممكن من أجل الخروج من المدينة، وخاصة مع زيادة الشعور يومياً بأن عودة الروح وفك الحصار عن المدينة يتطلب وقتاً من الزمن.
ومع خروج اختصاصيي الأطفال من المدينة، ازدادت حالة الأهالي كآبة وخوفاً على أطفالهم من مرض مفاجئ أو عدوى قاتلة لا تجد من يعالجها بالشكل السليم والدقيق، مع العلم عن وجود أمراض بدأت تنتشر بين الأطفال وهي الأمراض الجلدية في عدد من الأحياء الفقيرة في أطراف المدينة نتيجة غياب وسائل النظافة وانعدام وجود مادة الصابون.
ومسألة الخروج من المدينة ليس بالأمر السهل كما يظن البعض، لا براً ولا جواً، فتكاليفها باهظة وعالية، فالخروج براً يعد مخاطرة ومغامرة، وخاصة للمرضى وكبار السن والأطفال، فإجراءات داعش الوحشية التي لا تعرف الرحمة للصغير والكبير قاسية قد تودي بحياة الإنسان، والعبور من المدينة على الضفة الثانية للوصول إلى منطقة آمنة يتطلب من المغادر أن يسير على قدميه عدة كيلومترات تحت أشعة الشمس الحارة، والطرق الترابية اللاهبة، مع ندرة في الماء، ومنع داعش إعطاء القادمين من المدينة قطرة ماء، لأنهم كفار خرجوا من بلاد الكفر، مما يجعل الأمر عسيراً على كبار السن والمرضى والعجزة والأطفال.
ومما يزيد من حالة سكان المدينة يأساً وقنوطاً فقدان الأمل بانفراج قريب يحل لهم مأساتهم أو يحسن أوضاعهم المعاشية، فالأوضاع باقية على حالها إن لم تكن أكثر سوءاً، والكل ينتظر وفرة الماء والغذاء وحليب الأطفال والخضار والفواكه والكهرباء والوقود وكأس ماء بارد في صيف لاهب!
وما يشعر الناس بالموت البطيء، هو هذا الظلام الدامس الذي يحل بالمدينة بمنازلها وشوارعها وأسواقها وأزقتها منذ غروب الشمس إلى شروقها، إذ تتحول إلى قبور مظلمة يصعب السير في شوارعها، كما تحولت أعمدة الكهرباء فيها إلى مسلات مصرية تخبر الناس إنها كانت تضيء في زمن مضى. وعلى الرغم من المحاولات المشكورة من قبل المسؤولين لإعادة النور إلى المنازل ولو ساعة واحدة في اليوم، فإنها نجحت ثوان وفشلت أشهر وأيام، فلا يوجد الوقود الذي يشغل الآلات القديمة التي تستهلك كميات كبيرة من الوقود، ولا توجد مولدات حديثة تستطيع إعادة النور إلى المنازل.. يضاف إلى ذلك ندرة البنزين والمازوت والكاز التي تستعمل للإنارة والطبخ، مما دعا الناس إلى إيقاف مولدات الكهرباء المنزلية عن العمل، والتي كانت تستخدم قبل الحصار في إضاءة المنازل وجر المياه إلى الطوابق العليا، وتغذية أجهزة التبريد للماء وحفظ الأطعمة. كان في تشغيل تلك المولدات إنارة للشوارع وبث الحياة في المدينة. لقد توقفت مع غلاء الوقود وندرته.. فقد أصبح ليتر الغاز والكاز يباع بآلاف الليرات، وهذا أيضاً أنجر على غاز الطعام الذي أصبح من الماضي السحيق.. فقد وجدت قنينة غاز عند أحدهم فبيعت بسبع عشرة ألف ليرة سورية، فاستعاض سكان المدينة عن الغاز والكاز بالأخشاب المتوفرة لديهم أو بقطع الأشجار من أجل إعداد طعامهم أو غسيل ثيابهم وتغسيل أجسادهم، والبعض استخدم الأحذية البلاستيكية القديمة من أجل إشعال النار في المدافئ للدفء والطبخ.. أما ماذا يطحنون؟ فذاك حديث آخر، فمعظم أهل المدينة لا يجدون سوى الحشائش والملوخية والبامياء لطبخها لأولادهم، ولكن كيف تطبخ؟ يطبخونها فقط مع الماء من دون بندورة أو دبسها ومن دون زيت أو سمنة.
إلى جانب فقدان الوقود هناك غياب لوسائل التنظيف، فالصابون على أنواعه مفقود ونادر وغال الثمن، ومنذ أشهر استعاد أهل المدينة عمل أجدادهم في العصر الحجري، حينما كانوا يسكنون الكهوف في غسيل أجسادهم وثيابهم باستخدام الطين المتحجر والذي يطلقون عليه اسم (البيلون)، فاستخدم أهل دير الزور في القرن الحادي والعشرين البيلون للغسيل والتنظيف، وهو نوع يرغي مع الماء ويشبه الصابون، وقد يعممون هذه التجربة على بقية المحافظات بعد إنهاء الحصار. أما تنظيف أدوات الطعام والطهي من صحون وملاعق وطناجر فيستخدم التراب والرمل الذي ثبتت فاعليته أكثر من سائل الجلي!
وتحت الحاجة إلى توفير الطعام للأطفال والأسر لجأ سكان المدينة إلى بيع ما يمتلكون من أثاث منزلي لسد قيمة فاتورة الطعام النازية، فباعوا غرف النوم والاستقبال والبرادات والغسالات والأدوات الكهربائية بأسعار زهيدة، (شفطها) تجار الأزمات والمرابين فاشتروها بتراب الفلوس كما يقال!
وليصدق القارئ أن صاحب سيارة باع في دير الزور سيارته بكيسين من السكر ووجد نفسه رابحاً أمام انهيار أسعار السيارات في المدينة، لأن ثمن الكيس الواحد من السكر بـ400 ألف ليرة سورية!
ومن المأساة أيضاً من خرج من أهل المدينة إلى العاصمة من الموظفين لم يستلموا رواتبهم منذ عدة أشهر، ويطالبونهم باستلامها من دير الزور مثل من يعمل في الخدمات الفنية وغيرها من المؤسسات، والبعض وضع نفسه تحت تصرف الوزارة والبعض رفضت الوزارة أن يضع نفسه تحت تصرفها، فزادهم مأساة فوق مأساتهم، ولابد من حل سريع لإعطاء هؤلاء رواتبهم وهم الفارين من جحيم الموت البطيء مع أطفالهم وأسرهم في أماكن وجودهم.
هذا حال مدينة دير الزور المحاصرة، والتي يزحف الموت البطيء إليها، إنها تحتاج اليوم لحلول جذرية حقيقية ملموسة، والحلول ليست بالمعجزة، فلكل عقدة حلال. إن حل الأزمة سوف يفشل خطة داعش وأخواتها من تحقيق أهداف حصار هذه المدينة بالاستسلام، بعد أن فشلت داعش وأخواتها عسكرياً أن تحقق ذلك بفضل بسالة الجيش العربي السوري والكتائب الشعبية والعشائر وشجاعتهم وصمودهم وبطولتهم، وصمود أهل المدينة الرافضين للإرهاب ورموزه من أن ينالوا من هذه المدينة الصامدة الصابرة.
المصدر: صحيفة "النور" المحلية
تعليقات الزوار
|
|