سورية تخسر عمالتها وكوادرها
الاقتصاد اليوم:
لابد من الإقرار أن سورية بلد نابذ للخبرات، وطارد للمؤهلات، وغير مشجع للكوادر، ولاتتوفر فيه البيئة الحاضنة للإبداع والابتكار. واقع كهذا، لم يأت من العدم، وتوفرت مجموعة من الظروف الموضوعية لخلقه، والتأسيس لحالة من التردي، وعدم الإيمان بالقدرات البشرية، وهدر للطاقات، وحرمان المتفوقين والمميزين من الحصول على الفرص التي تليق بهم، وفي نهاية المطاف عدم النظر إلى الكوادر والقوى العاملة على أنها ثروة بشرية.
خسرت سورية ثروتها البشرية، التي أنفقت عليها المليارات، مرة قبل الحرب الطاحنة الحالية، والمرة الثانية خلال هذه الحرب المستمرة منذ أربع سنوات ونصف السنة. وإذا كانت الحرب المؤلمة تكفّلت بقتل عدد من الكوادر المبدعة والخلاقة، وتصفيتهم وطردهم، فإن كل الخطط والبرامج الحكومية السابقة مارست الدور عينه، مع اختلاف الأشكال والطرق، مادامت النتيجة واحدة. أدركت سورية ضرورة إيلاء الطاقات البشرية الاهتمام الكافي، وسعت منذ ستة عقود مضت لتأمين التعليم، لتخريج كوادر يحتاج إليها الاقتصاد الوطني، وتوفير التدريب اللازم فيما بعد لهذه الكوادر، لكنها في المقابل مارست سياسات ضيقة، وبلا أفق، جعلت من الكوادر مهمّشة، وبلا وزن، وبلا حضور، وبلا تأثير إيجابي، واقتصر دورها على تأدية مهام بسيطة، ومتابعات بلاقيمة. ولنتذكر مقولات (سامّة) رفعها مسؤولون في مراحل مختلفة، من قبيل ( لا تفكر، ليس مطلوباً منك التفكير وإيجاد الحلول، نفذ المطلوب منك وكفى، ....إلخ). هذه العبارات قتلت روح المبادرة، وحس المسؤولية، ودمرت التفكير الإيجابي، وكانت بحق ممارسات خاطئة مقصودة، أدت في الحصيلة النهائية إلى مغادرة مئات الآلاف من اليد العاملة المُتعلمة، والخبيرة، والمؤهلة، باحثة عن فرص مناسبة للعمل، وجرى تفريغ البلاد من كثير من الطاقات الهائلة التي تمتلكها، واتجهت إلى العيش في بيئات أفضل من البيئة المحلية لجهة العمل. ولا نجانب الصواب في اعتبار أن هذه التصرفات غير المسؤولة، كانت نهج عمل لكبار المسؤولين، فسياساتهم الإقصائية، ومواقفهم الشخصانية تجاه المبدعين، لم تكن خافية على أحد، إنه الأسلوب الأخطر في خراب البلد واقتصاده، وتدمير مقوماته، والقضاء على ما تبقى من هوامش أمل ممكنة.
تخرّج في الجامعات والمعاهد السورية عشرات الآلاف من المبدعين، لم يُسمح لهم بترك أثر إيجابي، أو إحداث فرق مهم في أي من مجالات اهتمامهم واختصاصهم. وللأسف الشديد حوّلت الحكومات المتعاقبة الكوادر البشرية إلى عاطلة عن العمل، والطاقات المهمة إلى مجرد موظفين صغار، لا يملكون القرار أو حتى تقديم المقترحات.
هدر الطاقات البشرية في تلك المرحلة، أدى إلى خسارة اقتصادية يصعب تقديرها، أو تعويضها. فالشخص الذي أنفقت الدولة عليه الأموال الطائلة، ثم لم نستفد من علمه وخبراته، هو خسارة مضاعفة، ومطرح استثماري لم يحقق الجدوى الاقتصادية، وفي النهاية كل البرامج الموضوعة ساهمت بتوجيه أنظار الطاقات البشرية إلى الأماكن الخاطئة، فكان السفر وجهتها، والخروج من البلاد هدفها.
في المقلب الآخر، تلعب الحرب دوراً مشابهاً للخطط والبرامج الحكومية السابقة، ومازرعته الأزمة الراهنة، لايختلف من حيث النتائج، عما حققته الممارسات والبرامج المذكورة. فأحد أوجه الحرب هو تهجير الطاقات المبدعة، فيما بلدان أخرى تتلقف هذه الطاقات تحت مسميات مختلفة، منها اللجوء الإنساني. تقدم بلادنا على طبق من ذهب، خيرة ثروتها البشرية للبلاد الأخرى، ولايمكن لوم هارب من الحرب، كما لايمكن تصنيف عمله هذا بالخطأ، فالبحث عن الفرص، وإيجاد الظروف المناسبة، هو حق مشروع لهذه الطاقات، لأن النزيف السوري لايمكن أن يُنسى، ولايمكنه أن يكون رحيماً على الطاقات البشرية. إن خسائر الحرب لاتقاس بحجم الدمار والقتل فقط، هناك أيضاً ما يتعلق بفقدان البلاد طاقاتها البشرية على اختلافها، والحرب الطاحنة في سورية، ساهمت في تفريغ البلاد من ثروتها البشرية، التي لم يأت وقت ونُظر إليها على أنها ثروة حقيقية، فأتت الحرب وأكملت فصول التآمر على هذه الثروة.
تبدو موجات الهجرة الحالية واضحة للعيان، ومتزايدة، وهناك أرقام مهولة عن خروج آلاف الأشخاص الذين اتجهوا إلى أوربا وغيرها من الدول التي تبحث عن كوادر، وعمالة مؤهلة. إلا أن هذه الموجات تشبه من حيث النتائج ما كان يحدث تحت أعين المسؤولين، من مغادرة آلاف الشباب باحثين عن فرصة عمل في دول مختلفة، لاسيما دول الخليج العربي، فالذرائع تختلف، والظروف متناقضة، لكن النتائج متطابقة.
سورية التي فقدت الكثير من مواردها، وقدراتها، واحترقت بلهيب هذه الحرب التي لاطائل منها، ستقف في لحظة محددة، وتبكي مواطنيها الذين هربوا من دفء وطنهم، إلى دفء أوطان أخرى جعلت من إنسانيتهم أي السوريين فوق كل اعتبار، وهذا اقتصاد بحد ذاته في شكله العملي، أن تأتيك كوادر خبيرة ومدربة ومتعلمة دون عناء إطلاقاً، سوى منحها ورقة ترحب بها في موطنها الجديد.
ثامر قرقوط
المصدر: صحيفة "النور" المحلية
تعليقات الزوار
|
|