الدكتور الياس نجمة: هل يستحق الحفاظ على سعر صرف وهمي تعطيل الاقتصاد .. نحن الآن نعيش إعصار تضخم
تمت إعادة الإعمار في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية والخراب الكبير الذي شمل كل البلدان الأوروبية المنتصرة والمهزومة، بعد أن توفرت ثلاثة شروط أساسية، وقد صاغ هذه الشروط كبار الاقتصاديين في العالم، واشترطوا أولاً أن يتوفر المال الرخيص، والمقصود بالمال الرخيص التمويلات ذات الفائدة المنخفضة، وأن يتوفر العنصر الآخر المهم وهو الطاقة الرخيصة، أي وجود طاقة بمختلف أنواعها الأحفورية والكهربائية وغيرها بأسعار وكلف رخيصة، وأن يتوفر الشرط الثالث الأهم وهو أيدي عاملة ماهرة رخيصة، ولما لم يكن بالإمكان تأمين هذه الأيدي العاملة بكثرة وبالعدد المطلوب في أوروبا جاءت الهجرات من شمال أفريقيا ومن تركيا وهكذا تجمعت أعداد غفيرة من العمال الأجانب تم استخدامهم بشروط صعبة وبأجور منخفضة وخصوصاً في ورشات البناء , لدرجة أنه كان يقال أن كل عمال البناء في فرنسا أجانب، ففرنسا وبلجيكا وألمانيا وحتى إنكلترا استقطبت عمالة رخيصة من المغرب العربي.
ماذا يجري في بلدنا؟
رفعنا أسعار الطاقة إلى درجات غير معقولة، فنحن تعودنا في اقتصادنا السوري عبر عشرات السنين على وجود طاقة رخيصة، بينما الآن لدينا طاقة إذا قيست بمستويات الدخل ومستويات الأسعار ومستوى النشاط الاقتصادي هي من أعلى كلف الطاقة بالعالم.
أما على صعيد النقود أي التسليفات، فنحن لدينا أسعار فائدة مرتفعة تعيق الاستثمار، لأن أسعار الفائدة المرتفعة، تعني أن كل استثمار ليس له ربحية تفوق أسعار الفائدة بمقدار الضعف على الأقل من أجل تحقيق الأرباح وتغطية المخاطر يصبح غير قابل للتحقيق، فإذا كانت الفائدة 20 بالمئة فهذا يعني أن كل مشروع ربحيته أقل من 40 بالمئة لا يمكن أن يقوم، في حين أن الفوائد في أوروبا وأمريكا كانت لا تتجاوز 1 إلى 2 بالمئة أي أسعار فائدة منخفضة تساعد على الإعمار وأيضاً تقلل من كلف المشاريع.
في عام 1973 حدث تضخم كبير في أمريكا فدعا نيكسون قبل رحيله مباشرة إلى مؤتمر لكبار الاقتصاديين الأمريكيين وحضر المؤتمر 500 اقتصادي والجميع كانوا ينادون برفع أسعار الفائدة من أجل مكافحة التضخم، فتصدى لهم بول سامويلسون وقال: إن رفع أسعار الفائدة يزيد من كلفة المشاريع وحتى نستطيع أن نشجع المشاريع على تخفيض أسعارها يجب أن نخفض كلفها وأخذوا قراراً بتخفيض أسعار الفوائد لأن سعر الفائدة هو أحد الكلف وجميع المشاريع في الدول الأخرى تقوم على الاستدانة والاقتراض (الاقتراض هو الأساس).
أما الأيدي العاملة فقد وفرنا لكل الناس سبل الهجرة حيث لم يبقى لدينا أيدي عاملة ماهرة في بلدنا لا بل الأيدي العاملة الماهرة صُدرت إلى الخارج بسبب اتباع سياسات الرواتب والأجور المنخفضة، لأن سياسات الرواتب والأجور المنخفضة تتيح مجالات النهب والاستغلال سواء في القطاع العام أو القطاع الخاص، وتدفع الأيدي العاملة العادية والمختصة إلى الهجرة، وأدى ذلك إلى نزيف الأيدي العاملة السورية الماهرة وغير الماهرة.
لا بد للحكومة الجديدة أن تتصدى لهذه المسائل بعقل اقتصادي يقوم على تضييق الممنوعات وتوسيع المسموحات وتحرير المعاملات. إذا لم نقم بتحرير الأنشطة الاقتصادية فلن يتحقق النمو الاقتصادي، أما سياسات التضييق والمنع وعدم التيسير وكل هذه الأساليب المالتوسية التي تركها العالم منذ قرن من الزمن هي غير مجدية، "وأعني بالمالتوسية أنه في نهاية القرن الثامن عشر ازداد عدد سكان إنكلترا بنسبة كبيرة وأدى ذلك إلى زيادة أسعار المواد الغذائية وبشكل خاص الخبز وكان هناك أزمة، فجاء الراهب مالتوس وقال إنه لا بد من تخفيف الولادات وتخفيف الزيادة السكانية لأن الموارد الاقتصادية تزداد بنسبة أقل من نسبة زيادة السكان وقال بتعبير أن الموارد تزداد بمتوالية حسابية بينما يزداد السكان بمتوالية هندسية. وكثير من الاقتصاديين آنذاك خالفوه واعتبرت هذه السياسة سياسة جبانة " ، في حين أن الذي حدث في إنكلترا هو العكس تماماً بعد مالتوس، إذ أن تزايد السكان كان أهم أسباب النهوض وأهم أسباب الازدهار الإنكليزي.
تقدم الدول يرتبط بقدرة الدولة على الاستيراد
هذه السياسة المالتوسية مرفوضة في كل مرافق الحياة؛ فمثلاً هناك عجز في الميزان التجاري، ما الحل؟ هناك من يأتي ليقول الحل بتخفيض الاستيراد، إن الحل الأمثل هو بزيادة التصدير، الفكر المالتوسي ينصح بوقف الاستيراد أما الفكر التحريري للعملية الاقتصادية فينصح بزيادة التصدير وتأمين موارد بالقطع الأجنبي تساعد على زيادة الاستيراد، لأن تقدم الدول (أعيدها ثلاث مرات) يرتبط بقدرة الدولة على الاستيراد، لأن هذه الدول النامية جميعها بحاجة إلى استيراد المواد والتكنولوجيا والأدوية والآلات والآليات وكل أسباب التقدم المعاصر، بالتالي فإن زيادة الاستيراد يجب أن تكون هدف، ولكن من أجل تحقيق هذا الهدف يجب أن نزيد الموارد بالقطع الأجنبي وهذا يقودنا إلى موضوع سعر الصرف. سورية تاريخياً بلد مستورد للقطع الأجنبي، فقد قامت النهضة الصناعية في الأربعينات من خلال القطع الأجنبي الذي أنفقه الجيش الإنكليزي في سورية، بعد ذلك ذهب السوريون إلى الخليج وهاجروا إلى الأمريكيتين وأصبحوا يرسلون أموالاً كثيرة بالقطع الأجنبي إلى الداخل، ساعدت هذه التحويلات على إقامة مشاريع استثمارية، بالإضافة إلى الشركات الأجنبية التي استثمرت لدينا في قطاع النفط وفي قطاعات أخرى في التسعينات. فإذاً نحن بلد مستورد للقطع الأجنبي، ومن خلال التجربة الواقعية والممارسة تبين أن كل قرار يعيق خروج القطع الأجنبي من سورية هو نفس القرار الذي يعيق دخول القطع الأجنبي إلى سورية، ومن هنا لا بد من سياسة رشيدة تحدث نوع من التوأمة والتعادل بين كل حسنات استيراد القطع الأجنبي وعدم وضع معوقات أمامه حتى يتدفق علينا بأعلى ما يمكن، وحسنات منع إخراج القطع الأجنبي الذي في الحقيقة عندما يريد الخروج يخرج إما بأساليب قانونية أو بأساليب غير قانونية. وهنا تذهب بعض الجهات إلى اتخاذ إجراءات قسرية إدارية وأمنية للضغط على أسعار صرف القطع الأجنبي في الداخل وهذا أدى إلى تعطيل الاقتصاد. فهل يستحق الحفاظ على سعر صرف وهمي للقطع الأجنبي وُضع بشكل إداري وأمني تعطيل النشاط الاقتصادي برمته؟ علماً أن الكثير من العوامل التي تتحكم بأسعار صرف النقد الأجنبي هي عوامل ليست نقدية ولا اقتصادية.
التضخم ضريبة يدفعها الفقراء للأغنياء
نضيف ونذكِّر بأن سعر الصرف هو أداة في حين أن النمو هو الهدف. ماذا حققت هذه السياسات على أرض الواقع؟ إنها فشلت في الحفاظ على سعر الصرف وأتت بالركود الاقتصادي. كنا قد كتبنا سابقاً أن التضخم يجرُّ التضخم وأنه ضريبة يدفعها الفقراء للأغنياء، وهو يفتك بالجسم الاقتصادي كما يفتك السرطان في الجسد البشري، ولا بد من معالجته. وليكن معروفاً لدى الجميع أن معالجة التضخم لا تتم بإجراءات تضخمية كالتي تلجأ إليها الحكومة حالياً من خلال رفع أسعار المواد التي تتحكم بأثمانها كالمحروقات وغيرها. إنها إجراءات تضخمية بامتياز، بالإضافة إلى قيام الدولة بتغطية عجز الموازنة عبر الإصدار النقدي من المصرف المركزي، والتي أشعلت التضخم ونقلته من تضخم عادي مقبول إلى تضخم جامح ثم نحن الآن نعيش إعصار تضخمي، فقد ابتلع التضخم لدينا موارد الدولة وموارد الأفراد لا بل الاقتصاد بأكمله. وإن أي إصلاح اقتصادي لا يعالج هذه المشكلة لن ينجح على الإطلاق.
ماذا لو لم توفر الدولة التعليم المجاني لكل أبناء الشعب؟
يقوم بعض المسؤولين من حين لآخر بالتصريح بأن الدولة تدعم التعليم وأن الدولة تدعم الصحة وأن الدولة تدعم الخبز وبعض المواد الغذائية وأن وأن.... علماً أن للدولة وظائف تاريخية ومعاصرة ويتم ممارستها في كل دول العالم، هذه الوظائف هي أولاً توفير الأمن الداخلي والخارجي للمواطنين، والقضاء والعدالة، وتوفير الغذاء في حده الضروري، وتوفير الصحة والعلاج، وتأمين مستلزمات التعليم في كل مراحله ولكل أبناء الوطن، وبعض الدول تتوسع أكثر وأكثر وتؤمن السكن وتعالج قضايا الفقر وذلك عبر إجراءات تصحيحية في توزيع الدخل القومي الذي إذا ترك توزيعه على عفويته فهو يحابي الأقوياء اقتصادياً على حساب الضعفاء اقتصادياً، ولذا تبرز الحاجة لاتخاذ إجراءات مالية ونقدية واقتصادية للتخفيف من حدة الفروق بالدخول بين مختلف فئات المجتمع وتأمين الحد الأدنى الضروري من الموارد للفئات المحدودة الدخل وخصوصاً في البلدان التي تمارس سياسة الأجور والرواتب المنخفضة ومنها سورية، هذه وظائف الدولة، لماذا تأخذ الدولة إذاً الضرائب وتستحضر الموارد المالية إلا لتغطية نفقات مهامها ووظائفها المذكورة أعلاه! صحيح أن المسؤولين الحكوميين والاقتصاديين يكرهون الدعم لأنه يلقي بأعباء على الدولة ويشوه بنية الأسعار، ويستشهدون بأن اليابان لم تعرف كينز ولم تعرف ماركس إنما مارست لتحقيق نموها سياسات حقيقة السعر. لكن السؤال في ضوء ما سبق ماذا لو لم توفر الدولة التعليم المجاني لكل أبناء الشعب؟ هذا يعني أن كل الفئات الفقيرة التي لا تستطيع تحمل تكاليف التعليم الخاص لن تحصل على التعليم، وسوف يتسرب أبناؤها من المدارس إلى الشوارع. وماذا يعني ألا تقوم الدولة بواجباتها وتوفر العلاج والصحة للناس؟ هذا يعني أن كل إنسان لا تتوفر لديه القدرة على تغطية نفقات الطبابة والعلاج في المؤسسات الخاصة هو مُعرَّض للمرض وعدم القدرة على شراء الدواء والموت. وماذا يعني عدم توفير الغذاء الضروري بأسعار تكون في متناول الفقراء؟ هل نريد أن نزيدهم فقراً ونعرضهم لمخاطر سوء التغذية ونقص النمو والحرمان؟ إنها تحديات كبيرة...
إنما تقدم الشعوب ونجاحها في تحقيق النمو والتنمية يرتبط بقدرتها على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
سيرياستيبس
تعليقات الزوار
|
|