الاقتصاد اليوم ـ تغطية شاملة للأخبار الاقتصادية على مدار اليوم

 

الدكتور ماهر سنجر يتحدث عن التضخم في سوريا وطرق معالجته

الاقتصاد اليوم ـ خاص:

كتب الخبير في إدارة المخاطر الدكتور ماهر سنجر:

 الكثير من الأسباب الداخلية والخارجية دفعت التضخم في سوريا للقفز بشكل سريع وبطريقة جامحة، ومن أهم هذه الأسباب على المستوى الداخلي، تعطيل دور المؤسسات الفعلي من خلال السيطرة على القرار الاقتصادي لصالح ثلة من المنتفعين ومستوى الفساد المرتفع الذي حرم الدولة من جزء كبير من إيراداتها مما أثر على الموازنة العامة ومما أدى لحالة من الخلل الواضح بين الموارد والانفاق الحكومي (حيث شكل الانفاق الاستثماري نسبة 20% من اجمالي الموازنة لقاء 80% للإنفاق الاستهلاكي في العام 2023)، مما أنتج حالة تراكمية من العجر بحيث تم اعتباره صفة من صفات الاقتصاد السوري وصفات الموازنة العامة للدولة، ليبلغ ما يقارب 9 ترليون ليرة سورية في العام 2023 وليتم التخطيط لكل الموازنات وكان العجز حالة مسلم بها.

 كما أن التركيز على عدم الخروج من منطقة الراحة من قبل الفريق الاقتصادي السابق والتعامل التقليدي غير الاستباقي مع كافة التغيرات الاقتصادية وبغض النظر عن طبيعتها أو سرعتها إضافة للاعتماد على آليات وأدوات اقتصادية تقليدية محددة بغاية عدم المساس بمنظومة الفساد القائمة والمنافع الشخصية ساهم بشكل أو بأخر برفع حجم تضارب المصالح ونسبة الهدر للأفكار المقدمة ودفع القائمين على الاقتصاد لتهميش كافة الحلول الممكنة والمقدمة أو دفعها بعيداً عن خزينة الدولة أو افراغها من مضمونها.

أيضا حالة التبني الشكلي غير المنتج من قبل القائمين على عملية إدارة التضخم لمفاهيم فاعلة في الادارة كالإدارة بالأهداف وكإدارة الازمات دون تطبيقها فعلياً للتعامل مع التغيرات الاقتصادية الضاغطة على مفاصل الاقتصاد وإدارة التضخم مما ساهم في استنزاف الموارد المتوفرة ورفع درجة الهدر في الانسان.

ولا بد من الإشارة إلى أن ضعف الخبرة والامكانيات للقائمين على هذه الملفات الاقتصادية والمتزامن مع آليات غير مناسبة لاتخاذ القرارات الاقتصادية والتخطيط والتعينات غير المناسبة في مواقع اتخاذ القرار المبنية على المصالح الضيقة وليس الكفاءة همش القدرة على التعامل مع التضخم للوصول به إلى محفز للنمو الاقتصادي بل على العكس دفع معدل التضخم للتسارع غير المنضبط.

كما أن خروج الكثير من القطاعات المنتجة وتدمير سمعة الصناعة السورية والمنتجات السورية بعمليات مشبوهة كتجارة المواد المخدرة قد أضعف التصدير الذي كان أصلاً في طريقه للاضمحلال تدريجياً نتيجة الممارسات المجحفة بحق الصناعيين السوريين، حيث أن هذه الممارسات أدت إلى رفع تكاليف الإنتاج واقلال السلع في السوق مما خلق فجوة بين الطلب عليها وكم السلع المعروض مما ساهم في رفع معدلات التضخم.

لتأتي منصة الاستيراد وتساهم في تأخير وصول المواد الأولية والاستهلاكية مما حلق خالة من التخوف الذي أثر على حجم الطلب فبات الطلب على السلع الغير متوفرة مرتفع متزامنا مع فشل التعامل مع تقلبات سعر الصرف وإطلاق التلاعب بسعر الصرف لخدمة غايات محددة ليساهم كل ما سبق في تعميق الاضرار في القطاعات المنتجة وقدرتها الإنتاجية ودفع الأسعار للارتفاع بشكل غير منطقي وترك الساحة لقطاعات تعتمد سرعة دوران النقد لتحقيق الأرباح.

السياسة النقدية بما فيها سياسة التمويل بالعجر المتبعة وكسر قانون المصارف بطباعة فئات نقدية تجاوزت الفئات المحددة بالقانون أفقدت المركزي القدرة على الاستفادة من فاعلية الأدوات النقدية مثل تعديل معدلات الفائدة وقدرتها على التأثير بحجم السيولة وتوجيها للنظام المصرفي من خلال التعديل على معدلات الفوائد، إضافة لسياسة الإقراض السابقة التي أثرت سلبا في عملية الإنتاج وخلقت حالة من عدم التوافق بين الكتلة النقدية وبين حجم الناتج المحلي الإجمالي المتراجع ليصل لحوالي 8 مليارات ليرة سورية.

اطلاق يد شركات الصرافة والحوالات للتعامل مع سعر الصرف بالنيابة عن المصارف مما دفع التضخم للارتفاع.

كما أن السياسة النقدية وقرارات استخدام مخزون القطع الأجنبي لكبح جماح سعر الصرف كانوا من أكبر الأخطاء فكان من الاجدى استخدامه للتنمية بدلا من ضبط السعر فكيف يمكن للمركزي آنذاك ان يضبط سعر الصرف من خلال بيع العملات الأجنبية التي لا تخضع لا لرقابته ولا يقوم بطباعتها وبالتالي فالمركزي لم يدر مخزون العملات الأجنبية بالشكل الصحيح بل هدرها.

إن الإدارة غير المنتجة لمؤسسات التدخل والدعم فشلت بأداء دورها ولعبت دورا سلبيا من خلال تمرير البضائع للتجار على حساب المواطن وباتت داعما لعمليات الفساد وإدارة مخزون البصل والمياه مثال عن هذه الحالة ودفعت لتسريع عملية رفع الدعم أو تقديمه نقدا لفئة محددة مما شكل رافعة للتضخم لكون السلع المدعومة ارتفعت أسعارها وفقدت من الأسواق.

ومن الأخطاء التي ارتكبت سابقا أيضا، آلية تسعير المواد من قبل الحكومة حيث تم تسعير المواد بسعرين ومخالفة الدستور باعتبار المواطنين غير متساوين فهناك فئة المدعوم من قبل الدولة أي من يحصلون على بعض السلع بسعر اقل كالبنزين مثلا والغاز وفئة خارج الدعم رفعت عليهم الأسعار بموجب آليات استبعاد غير محقة مما أثر على أسعار المواد سلبا وخلق سوق سوداء جديدة هادرة لموارد الدولة ولكرامة الانسان ومعفية للحكومة من واجباتها بخلق فرص العمل فأضحى المواطنين ينفقون أموالهم على بعضهم فقط والحكومة تتفرج ولا تقوم بواجباتها.

 كان للدعايات الصفراء (البروبوجندا) كحملة محاربة الفساد ومشروع الإصلاح الإداري الذي خصص له أربع سنوات وخصصت وزارة كاملة له مع فرق كاملة وأنفق عليه أكثر مما أدى لنتائج واستمر الانفاق على (الحصان الميت) متجاوزا الفترة المحددة بأربع سنوات دون نتائج مما أثراً سلبا على سلوك العامة وخلق حالة من الصراع بين وزارات الدولة فتارة ستضم وزارة التنمية وتسمى هيئة مؤسسة ما وتسميها هيئة وتارة تتراجع، مما دق اسفينا جديدا في نعش ما يسمونه محاربة التضخم وفي نعش مصداقية الإصلاح من أساسه والقدرة على النهوض الاقتصادي.

ناهيك عن الاصطفافات السياسية غير المنتجة وضياع هوية الاقتصاد السوري واخراج القطاع العام من المنافسة بسبب تأخير إعادة الهيكلة وتصفية غير الرابح والدفع بعدم حل التشابكات المالية فيما بين مؤسساته وتحميل عبء الشركات الخاسرة على الرابحة أدى إلى تحول شركات القطاع العام الرابحة إلى أصول غير منتجة ورفع حجم التزاماتها بدلا من أرباحها مما فاقم من مشاكل السيولة وأضعف العائد على خزائن الدولة.

ساهمت الجباية التي حلت بدل النظام الضريبي العادل في زيادة معدل التضخم وساهمت في إطفاء شمعة المشاريع الصغيرة والمتوسطة ودفعها للمغادرة ورفعت من معدلات التهرب الضريبي وبالتالي فقد الاقتصاد السوري أحد أهم محفزات النمو ألا وهو المشاريع الصغيرة والمتوسطة وبقي العبء الضريبي على كاهل فئة الموظفين رغم التعديل على معدلات الضريبة على الرواتب ورفع الحد الأدنى المعفى مما خلق جيشاً غير منتجا أو منخفض الإنتاجية من العاملين لدى القطاع العام لشعورهم بأنهم يتقاضون راتب لا يذكر ولا يكفي لاي شيء وبأنهم مسؤولون عن الانفاق على الحكومة نفسها.

أما فيما يتعلق بالأسباب الخارجية للتضخم، فكان لتجميد الأصول والعقوبات أثرها فعليا، كما ساهمت دول الجوار في رفع معدلات التضخم لكونها تعاني أيضاً من التضخم بشكل مسبق، وبالتالي وجدت الفرصة المناسبة بتصدير أزمتها للسوق السورية حيث أنها ساهمت في تدفق السلع من خلال معابر غير شرعية أو ساهمت في المضاربة على سعر صرف الليرة السورية، كما أنها دفعت للاستفادة من تجميع مدخرات السوريين في المصارف لديها نتيجة لفقدان الثقة في النظام المصرفي السوري ونتيجة لأزمات السيولة لديها من خلال استقطاب التجار والصناعيين السورين وتفعيل الاستثمار بالمواطنة.

ويمكن القول بأن السمة التي رافقت التضخم بسورية هي حجم السيولة الزائد ومعدلات الفقر المرتفعة التي بلغت أكثر من 70% من السكان وعدم الاهتمام الصحيح بالبنى التحتية والتشريعية والفساد المعلن مما فاقم من التضخم وجعله يتسارع ليترافق أحيانا مع حالة من الركود الناتجة عن سياسات تجفيف السيولة المتبعة من قبل القائمين على السياسة النقدية.

بكل تأكيد مر التضخم بمراحل مختلفة في سورية فكان يسير من العام 2011 بشكل تدريجي تصاعدي ليصل لنسبة 118% في العام 2021 وليقفز متسارعاً بعدها لأكثر من 8 اضعاف بين العام 2019والعام 2022 وان دل ذلك فهو دليل على عدم وجود استراتيجية حكومية واضحة للتعامل مع المتغيرات الاقتصادية ومخاطر البيئة والكوارث الطبيعية حيث أن عتبة سعر الصرف قفزت مع بوادر وصول فيروس كورونا لسوريا ويدل على تمكن ارتفاع اثر المسببات الداخلية و الخارجية من الاقتصاد السوري.

بعد التحرير اختلفت الأمور بشكل واضح، حيث أن التضخم انخفض، وبلغ نحو شباط 2024 والشهر الأول من العام 2025 بحسب تقارير المركزي حوالي 46% مقارنة بـ 119% للفترة نفسها من العام السابق، وهذا يعود لعدة أسباب:

أولها كسر قيد التعامل بالعملات الأجنبية وارتفع معدل الامل بانفتاح اقتصادي وانخفاض بحجم الاتاوات المفروضة على التجار والصناعين ورفع معدل العرض من السلع واقصاء بعض الفاسدين إضافة إلى سياسة حبس السيولة التي اتبعت خلال الأشهر السابقة لكن من الجيد الإشارة إلى أنه من الضروري اتخاذ جملة من الإجراءات الاقتصادية لتعزيز حالة التراجع في معدلات التضخم.


فعليا للبدء بمحاربة التضخم هناك خطوط عريضة يتوجب البدء بها وهي:

إعداد تصنيف وطني للمشاريع متدرجا من المشاريع ذات السيادة الاستراتيجية إلى المشاريع الأكثر إنتاجية والأكثر مردودا ودعمها بالطرق المماثلة وتسهيل انشاءها وفرض مبدأ الإدارة الرشيقة على هذه المشاريع إضافة لتطبيق مفهوم الاقتصاد الدائري على كافة القطاعات.

اعداد مؤشرات قطاعية لسهولة تنفيذ الاعمال ومؤشرات لقياس الأداء لكل قطاع بغاية تهيئة الأجواء الاقتصادية المستقرة.

الانتقال للهوية الاقتصادية السورية الجديدة تدريجيا بالتزامن مع تشجيع القطاع الزراعي وتوفير المستلزمات اللازمة له بغاية المحافظة على الأمن الغذائي وبالتزامن مع استثمار المواد المحلية وتوجيهها لدعم عملية النمو والاعفاء الجمركي التدريجي.

الانتقال بالتخطيط إلى آلية تراعي أكثر المزايا التنافسية والموارد المادية وغير المادية ودمج تام لأهداف التنمية المستدامة ضمن الأهداف المعلنة بغاية معالجة المشاكل الاجتماعية أيضا وتحقيق السلم الاجتماعي.

متابعة الانفتاح على كافة الدول الأخرى وفقا للمصلحة السورية الاقتصادية إضافة للمصلحة السياسية وتوقيع اتفاقيات التجارة الحرة مع منح الصناعة الوطنية فترة حماية محددة ومع منح المصدرين حوافز مالية ومعنوية لكل عملية تصدير.

استكمال تهيئة البنى التحتية اللازمة واستبدالها تدريجيا ببنى تحتية مستدامة بما فيها الموانئ والكهرباء والبنى اللازمة للدفع الالكتروني وتخفيض تعرفة الاتصالات بغاية تنشيط قطاع ريادة الاعمال والعمل المنزلي والأعمال الحرة والعمل الصناعي مع إمكانية مشاركة القطاع الخاص في بعض استثمار بعض البنى التحتية غير السيادية.

الإسراع بتفعيل المؤسسات الحكومة وتشغيل المشاريع الرابحة منها مع إعادة النظر بغير المنتج ومنع تكرار استخدام السياسة النقدية المستخدمة سابقا من المصرف المركزي وإعادة النظر بالسياسة النقدية الحالية بما في ذلك التراجع التدريجي عن حبس السيولة لدفع الافراد لاستثمار اموالهم ولمنحهم الثقة ثانية بالنظام المصرفي والانتقال لسياسة تعويم سعر الصرف المقيد.

التنسيق الكامل بين السياسة النقدية والمالية وهيئة الاستثمار وغرف الصناعة والتجارة بغاية تحفيز الإنتاج والاستثمار والدفع باتجاه إعادة وظائف الليرة السورية واهمها الادخار والتبادل وحفظ القيمة.

الإسراع في اصلاح النظام المصرفي والعمل على توفير بنوك مراسلة للاستفادة من فرصة تعليق العقوبات الحالية وتخصيص وزارة للشباب والعائدين من دول المغترب.

تأسيس هيئة مستلقة لإدارة المخاطر واستمرارية الاعمال تتبع لرئيس الجمهورية لمتابعة ملفات السياسة النقدية والمالية والاستثمارية ولمتابعة تفعيل عملية اصلاح النظام الاقتصادي والتشريعي والاعتماد على الخبرات المحلية لكون أهل مكة أدرى بشعابها.

الإقراض للمشاريع المنتجة أو المشاريع ذات الجدوى الحقيقية ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة والعمل على إعادة توطينها

استبدال نظام الاستدانة السابق (سندات خزينة أو خطوط ائتمانية) بنظام الصناديق الاستثمارية.

اعتبار المشاريع الدولية الكبرى فرصة حقيقية واجب الاستفادة منها من خلال الاستفادة من الموقع الجغرافي لسوريا وباقي المزايا النسبية وتهيئة البنى التحتية للاستفادة من المشاريع الكبرى الدولية.

بناء منظومة إعلامية اقتصادية حقيقية داعمة لعملية التطوير الاقتصادي.

توسيع مروحة الإعفاءات الضريبية والتسهيلات الممنوحة وتشجيع نمو المنتجات الادخارية المصرفية أو في قطاع التأمين.

الاستثمار في التعليم وتقديم الدعم المادي ولمعنوي له والاستفادة من اقتصاد المعرفة.

وأقدم نصيحة للحكومة الحالية ألا وهي الاستفادة ممن هو متواجد على ارض الواقع لأنه أدرى بطبيعة العمل في سوريا وامتلك الكثير من المعرفة في إدارة الازمات والعمل في ظل ظروف اقتصادية صعبة، إضافة إلى تجنب تكرار الأخطاء الاقتصادية المرتكبة أيام النظام البائد والعمل بعقيلة الوفرة بدلا من الندرة وتطبيق أفضل الممارسات على الشركات والمؤسسات الحكومية بما فيها الحوكمة وإدارة المخاطر واستمرارية الاعمال.

وسيم إبراهيم

الاقتصاد اليوم

تعليقات الزوار
  1. تعليقك
  2. أخبرنا قليلاً عن نفسك