تحدّيات تواجه سعر صرف العملة الوطنية
الاقتصاد اليوم:
ان سعر العملة شأنه شأن سعر أية سلعة أخرى يخضع بشكل رئيس لقانون العرض والطلب (بالإضافة إلى حجم الاحتياطي من القطع الأجنبي لدى المصرف المركزي وقدرته على التحكم في سعر الصرف)، وعلى هذا الأساس بقدر ما يزداد الطلب على النقد الأجنبي في السوق، مقارنة مع الحاجة إليه تزداد قيمته وتنخفض قيمة العملة الوطنية المقابلة له، والعكس صحيح.
في ظل الأزمة التي تعيشها سورية، وبسبب نقص الصادرات وزيادة المستوردات، فإن مقبوضات الدولة من العملات الأجنبية هي أقل من مدفوعاتها، وبالتالي فإن المقبوض من العملة الأجنبية مقارنة بالمطلوب هو في مصلحة الطرف الثاني من المعادلة، وعلى حساب الطرف الأول منها.
الأسباب: لما كانت أهم مصادر الحصول على الموارد بالعملات الصعبة تكمن بفائض الناتج المصدّر من النفط والقمح والقطن والفوسفات وخدمات السياحة، إلى جانب تحويلات المغتربين، فإن هذه المصادر وبسبب الأعمال التخريبية والسرقات، وحالات الفوضى والتخريب، وغياب الأمن والاستقرار قد انخفضت، وقد أدّى كل ذلك إلى خسارة هذه المطارح سواء كمصدر مهم للعملات الصعبة أو كمموّل للطلب الداخلي وتحوّلت من مصادر للحصول على القطع من خلال تصدير الفائض منها إلى الأسواق الخارجية إلى عجوزات في وجودها وكينونتها. لقد تراجع إنتاج النفط من حوالي 370 ألف برميل في اليوم إلى أقل من 10 آلاف برميل في اليوم، وتراجع إنتاج القمح والقطن والفوسفات إلى مستويات هائلة، وتراجعت السياحة إلى مستويات متدنية، وأصبح التفتيش عن مصادر لتصحيح هذا العجز مطلباً ملحّاً، لمواجهة التحوّل الذي حصل في هذه المطارح من مصادر للتمويل، إلى مطارح للاستنزاف، ولتغطية النفقات التي تفرضها التحديات التالية:
أولاً – تحدّي إعادة الأمن والاستقرار: ليس مصادفة أن يأتي التحدّي الأمني في مقدمة التحديات لأنه طالما لم يتحقق الأمن والاستقرار فإنه من غير الممكن التصدي للتحدّيات الأخرى وتأمين حلول ناجعة لها، وبالتالي فإنه على الرغم من النفقات الكبيرة التي تصرف على الجانب الأمني والعسكري والتي تعدّ غير إنتاجية بالمفهوم الاقتصادي إلا أنها ضرورية، ولابد منها من أجل الإنتاج ولاسيما لجهة تمكين الفلاح من الذهاب إلى الحقل والعامل إلى المصنع والتاجر إلى المتجر، ومن ثم تأمين تجميع الإنتاج وتسويقه، وإيصاله إلى المستهلك. والتحدّي بهذا المعنى يواجه:
– زيادة كبيرة في النفقات دون أن يترتب عليها زيادة مباشرة في الإنتاج.
– تحويل نسبة من قوة العمل التي يفترض أن تعمل في المجال الإنتاجي إلى العمل في المجال الأمني والعسكري.
– تمويل أعمال قد تؤدّي حسب مقتضيات الأعمال القتالية للدفاع عن السكان والمنشآت والبنى التحتية إلى تخريب بنسبة ما في كل ذلك، بدلاً من أعمال البناء والصيانة والإصلاح، وهذه جميعها تؤدّي إلى زيادة في النفقات والمصروفات غير التنموية –كما يخيّل لبعضهم-، لكن من غير الممكن إهمالها أو الاستغناء عنها حفاظاً على التنمية واستمراريتها التي يعدّ تحقيق الأمن والاستقرار مكوّنا أساسياً من مكوّناتها ولاسيما التنمية الإنسانية.
– الوقت الضائع والإرهاق الذي يعانيه من يعمل ليصل إلى عمله يومياً وذلك بسبب ازدحام الطرقات.
ثانياً – تحدّي الطاقة: تبرز أهمية الطاقة في الدور الذي تؤدّيه في حياة المجتمع، وفي الدورة الإنتاجية، وتمويل الاقتصاد الوطني، وهذا ما جعل هذا الدور أكثر وأشدّ استهدافاً من جانب الجماعات الإرهابية والتكفيرية لما له من أهمية في:
– التأثير في المزاج الشعبي بهدف إثارته ضد قيادته التي دأبت خلال العقود السابقة على تأمين الطاقة بشكل دائم وبأسعار مدعومة.
– الضغط على مصدر أساسي من مصادر التمويل (المتمثل بالطاقة) لا بل تحويله من مصدر تمويل إلى مطرح استنزاف يرهق موازنة الدولة ويزيد العجز في مكوناتها.
– الضغط على الإنتاج من خلال تخريب وسرقة مكون أساسي من مكونات مستلزمات الإنتاج (النفط مثالاً)، وفي هذه الحالة تشكل الطاقة بواقعها الراهن تحدّياً كبيراً يؤدّي النجاح في مواجهته إلى زيادة الإنتاج والتصدير، والتقليل من الاستيراد، ومن ثم تصحيح العجز في الميزان التجاري ويحدّ من الأسباب التي تؤدّي إلى زيادة الطلب على القطع الأجنبي الذي يعدّ سبباً من أسباب انخفاض سعر صرف الليرة السورية.
ثالثاً – التحدّي الغذائي: بالاستناد إلى بعض الإحصائيات عن الواقع السكاني في سورية المتمثل بوجود حوالي 6.3 ملايين نسمة يعانون من انعدام الأمن الغذائي منهم 4.2 ملايين يتعرّضون إلى مستوى عالٍ من الخطورة، وأن 16% منهم يذهبون إلى النوم جوعاً، وبمعدل 10 مرات/شهر، وإلى أن نسبة الأسر التي تقع تحت خط الفقر ترتفع إلى 70% (أعلاها في الحسكة بنسبة 90% والقنيطرة بنسبة 82% ثم إدلب وطرطوس 80% جريدة الأخبار اللبنانية /زياد غصن) يتبيّن حجم التحدّي الكبير والملح الذي يواجهه صناع القرار التنموي في سورية لجهة التناقض بين أهداف الخطط والبرامج، والبيانات التي تقدّمها الحكومة للجهات ذات العلاقة، بشأن العمل على تحسين مستوى معيشة السكان، وبين المستوى المتدني الذي وصلت إليه مستويات المعيشة لذلك العدد والنسبة الكبيرة من السكان التي تقع تحت مستوى خط الفقر، إزاء هذه الحالة تبدو المشكلة مركّبة ومعقدة. إنها تتطلب تأمين الاحتياجات من السلع الغذائية ولاسيما الرئيسية سواء من الإنتاج المحلي، أم بالاستيراد من العالم الخارجي، وفي كلتا الحالتين تحتاج إلى تخصيص نسبة وازنة من الموارد لتلبيتها. وإذا ما تم التوجّه إلى تأمينها من الإنتاج المحلي فإن هذا يحتاج
إلى توفير مستلزمات الإنتاج، وإلى حماية الإنتاج ودعمه، وهذا غالباً ما يتزامن مع ارتفاع بالأسعار يتحمّله المستهلك.
أما في حالة الاستيراد من العالم الخارجي فقد يبدو ذلك في ظل الانخفاض في أسعار الطاقة، وأسعار المواد الأساسية عالمياً مفيداً في تحقيق فائض المستهلك إلا أنه في الواقع المعيش ليس كذلك ولسببين:
– الأول هو ما نشهده من ارتفاع مستمر في أسعار السلع بالسوق المحلية على الرغم من انخفاض معظمها في السوق الدولية.
– إن فاتورة الاستيراد التي تدفع لسلع يتم إنتاجها في الخارج، وتعدّ تسرّباً من الاقتصاد الوطني، لم تؤدّ إلى تسريع دورة الإنتاج لأن معظم السلع المستوردة من السلع النهائية، وليست من مستلزمات إنتاج.
رابعاً – تحدّي تأمين مستلزمات الإنتاج: في إطار التحدّيات المطروحة يبدو أن تأمين مستلزمات الإنتاج خيار متأخر في جدول الأولويات (على أقل تقدير من حيث الشكل) ويحتمل التأجيل في المواجهة بحجة أن المستهلكين الذين يعانون من الجوع والفقر، والعوز، والحاجة الملحّة إلى تأمين متطلباتهم اليومية، لا يستطيعون انتظار إنتاج المعامل والمنشآت التي يتم استيراد المستلزمات لتشغيلها، ومع وجاهة هذا التبرير إلا أننا نعتقد أنه من الخطأ الاقتناع بهذا التوجّه لأن ما يعنيه من حيث مفاعيله ونتائجه هو الدوران في حلقة مفرغة.
إن العمل لجهة تأمين مستلزمات الإنتاج يعدّ خياراً استراتيجياً، ولاسيما للمشروعات القائمة أو المباشر فيها ولم تستكمل، أو التي تم تخريبها جزئياً، بعدها لا تحتاج إلى استثمارات وموارد كثيرة ولا إلى فترات زمنية طويلة حتى تباشر الإنتاج وتلبية حاجة السوق المحلية، وإن الفترة الانتقالية بين الترميم والبدء في الإنتاج، حتى إن كانت سوف تؤدّي إلى ارتفاع في الأسعار وتخفيض الدخول الحقيقية، إلا أن ما يقلل من الآثار السلبية هو تأمين السلع في المستقبل (الذي لا يجوز أن يكون طويلاً) من الإنتاج المحلي وتخفيف الضغط على القطع وتشغيل اليد العاملة، ومعالجة الاختلالات التي يعاني منها الاقتصاد الوطني.
غنيّ عن البيان القول إن ترتيب التحدّيات بالشكل المشار إليه لا يعني بأي حال البدء بمواجهة التحدي الأول والانتظار حتى الانتهاء منه للبدء بالإعداد والتحضير لمواجهة التحديات الأخرى. إن التحديات المذكورة تشكل وحدة متكاملة، ومن شأن النجاح في أي منها تقوية وسائل المواجهة، وتسهيل فرص النجاح في معالجة التحديات الأخرى ولاسيما إذا ما كانت تؤدّي إلى زيادة الناتج، وتحقيق التوازن في الاقتصاد الكلي، وضمن هذا المفهوم حتى تكون المعالجة لسعر الصرف فعّالة وتؤدّي الغرض المطلوب منها، تقتضي تشخيص الأسباب التي أدّت إلى تخفيضها، وليس إدارة الأزمة التي وصلت إليها، ولأن الأسباب الداخلية تكمن بشكل أساسي في زيادة المدفوعات على استيراد الطاقة والمواد الغذائية، وتأمين مستلزمات الإنتاج من الأسواق الخارجية والنفقات التي يحتاج إليها تحقيق الأمن والاستقرار فإن هذا يعني العمل على كل ذلك وتصحيح الانحرافات التي تظهر في أي منها.
وهذا ما يحتاج إلى خطط وبرامج واضحة وإلى مؤسسات وإدارات متخصصة كفؤة ومبدعة وإلى سياسات متناسقة لا متعاكسة تضبط الإيقاع وتصوّب المسار، فالانخفاض الذي وصل إليه مستوى المعيشة وارتفاع نسبة الفقر –كمثال– لا يحتمل ضغوطاً إضافية تزيد في تعريض مستوى المعيشة للخطر، وإذا كانت زيادة الإنتاج تعدّ مدخلاً في المعالجة من خلال التركيز على تشغيل المشاريع القائمة بأقصى طاقاتها الإنتاجية والمباشر بإنشائها وبأقصر فترة زمنية ممكنة وترميم ما تم تخريبه تبعاً لنسبة التخريب ومستوى الأمان في المناطق التي توجد فيها وأهميتها في الاقتصاد الوطني، فإن هذا المدخل لا يقلل من الحاجة والأهمية للتدخل الإيجابي لوزارات الدولة ومؤسساتها في السوق وفي تسعير الإنتاج اعتماداً على مقاييس ومعايير اقتصادية تراعي التكلفة المعيارية، إلى جانب ضبط الأسعار، والحدّ من الاحتكار ومن التجارة في السوق السوداء والقضاء على الرشوة المنتشرة والفساد المستشري والحدّ من الهدر والتبذير كإجراءات تكمّل المسار الإنتاجي الصحيح ولا تكون بديلاً منه.
المصدر: صحيفة "البعث" المحلية
د. موسى الغرير
أستاذ الاقتصاد في جامعة دمشق
تعليقات الزوار
|
|