الاقتصاد اليوم ـ تغطية شاملة للأخبار الاقتصادية على مدار اليوم

 

صناعة سوريا في مفترق طرق.. بين تحديات البقاء وفرص التعافي

الاقتصاد اليوم:

“البروكار والدامسكو والأغباني والموزاييك” هي صناعات اشتهرت بها سوريا عبر أقدم الأزمنة، ودفعت باسم الصناعة السورية إلى أقاصي الأرض، حيث يعتبر القطاع الصناعي أحد الركائز الأساسية للاقتصاد لارتباطه الوثيق بالقطاعات الأخرى (الزراعة والتجارة).

وبعد المنتجات الزراعية، حملت الصناعة السورية راية الاقتصاد في الأسواق الخارجية، مؤكدةً مكانتها المتميزة ومواصلةً إرثها العريق في الإنتاج والجودة.

بداية النشاط قبل التوسع والنهوض

نشاط الصناعة السورية بدأ عقب نيل سوريا استقلالها عام 1946، حيث ظهرت الصناعات المعدنية والأنظمة الكهربائية والنسيج والأسمدة وغيرها. وبعد عام 1973 توسع النشاط الصناعي حيث بلغت مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي خلال عام 1975 نحو 29.8% خاصة مع تأسيس أولى المناطق الصناعية لتنظيم هذا القطاع في حلب.

وفي عام 1997 بلغ الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية 23.182 مليون دولار، وبلغ حجم اليد العاملة المحلية في الصناعة حوالي المليون عامل.

استمر نهوض القطاع الصناعي السوري مع تخفيض الضريبة على الصناعات إلى 35% في 2001 وتم إصدار تشريعات وقوانين محفزة للعمل الصناعي، واتصفت الصناعة السورية في هذه الفترة بالتوسع والانتشار بعد انتهاج الحكومة اقتصاد السوق الاجتماعي الذي سمح بإشراك القطاع الصناعي الخاص في النشاطات الاقتصادية.

في نهاية عام 2003، بلغ عدد منشآت القطاع الخاص 116720 منشأة، يبلغ إجمالي رأسمالها حوالي 155 مليار ليرة سورية، وكان يعمل فيها ما يقارب 380 ألف عامل، ما دفع بمؤشرات مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي إلى 40%.

إلا أن هذه المساهمة عادت إلى الانخفاض لتبلغ 36% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2005، لعدة أسباب منها صعوبة المنافسة وارتفاع تكاليف الإنتاج وتغير حجم الطلب المحلي والخارجي.

مع حلول عام 2009، أنشأت الحكومة أربع مدن صناعية، وهي: مدينة حسياء الصناعية جنوب حمص، ومدينة عدرا الصناعية شمال دمشق، ومدينة الشيخ نجار الصناعية شمال حلب، ومدينة دير الزور الصناعية شمال دير الزور.

وشجع ذلك المستثمرين المحليين والأجانب على الشروع في العديد من المشاريع الصناعية الكبيرة، لتصبح مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي عام 2010 نحو 25%، وتبلغ قيمة الصادرات السورية، ومنها الصناعية، لنفس العام نحو 11.35 مليار دولار.

التدهور والبيئة الطاردة

مع بداية الثورة السورية عام 2011، شهد القطاع الصناعي تدهورًا ملحوظًا في شتى أركانه، سواء من ناحية الصعوبة في الحصول على مستلزمات الإنتاج أو استيرادها، أو من خلال التحويلات المالية، وخسارة العديد من الأسواق الخارجية للتصدير، وتدمير البنى التحتية، وهجرة آلاف العمال من أصحاب الخبرة.

هذه الآثار الكارثية انعكست على مخرجات القطاع الصناعي، ليسجل خسائر قُدّرت بـ 2000 مليار ليرة، أي أربعة أضعاف الناتج المحلي للقطاع عام 2010. واستمر هذا التراجع الحاد، ليسجل عام 2024 تراجعًا في إنتاجه من 355 ملياراً إلى 61 ملياراً وفق أسعار السوق عام 2014، مقارنةً مع عام 2010، بحسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء. كما تراجعت نسبة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي من 25% تقريباً إلى أقل من 8% بين عامي 2010 و2014.

وفي عام 2015، عند هدوء الجبهات القتالية، عادت بعض المناطق الصناعية للعمل، ولكن نمو القطاع الصناعي لم يسجل نسباً عالية، ففي عام 2016 سجل نسبة نمو 9%، وفي عام 2018 سجل نسبة نمو 1% فقط.

لم يستطع القطاع الصناعي السوري أن يحقق نسب نمو مرتفعة خلال الفترة الممتدة من 2016 وحتى 2024، فهو يواجه عقوبات اقتصادية، وفقدانًا لمصادر الطاقة، وارتفاعًا هائلًا في مدخلات الإنتاج، وغياب العمالة الماهرة، عدا عن الإتاوات والفساد الكبير الذي عانى منه معظم الصناعيين، لتصبح مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي 9.6% فقط خلال عام 2022.

واستمر الواقع القاتم للصناعة السورية حتى نهاية العام الماضي 2024، والذي سجل خلال النصف الأول منه ترخيص 1459 مشروعاً صناعياً، لم يُنفذ منها إلا 243 منشأة، ما يعطي مؤشرًا على البيئة السورية ونتيجة العوامل الطاردة للصناعة والاستثمار، التي لا تزال تعاني العقم في إنجاب مشاريع صناعية قادرة على تحريض مؤشرات النمو للارتفاع.
الصناعة السورية والمنافسة

مع سقوط نظام الأسد وبدء انفتاح سوريا على محيطها الدولي والإقليمي، ومع الانتقال المفاجئ الذي طرأ على الاقتصاد السوري وإلباسه ثوب اقتصاد السوق الحر، شعر الصناعي السوري بشيء من الأمل في إعادة النهضة لهذا القطاع، خاصة أن الحكومة السورية الجديدة أجرت تخفيضًا جمركيًا شمل استيراد المواد الأولية وخطوط الإنتاج.

ورغم شعور الصناعي السوري بالأمل، فقد راوده الشعور بالخوف، كون الانتقال المفاجئ لاقتصاد السوق الحر وضعه أمام منافسة شرسة مع المنتجات الوافدة.

وهنا لا بد من طرح أسئلة مشروعة حول أثر ذلك على الصناعة السورية، والتوصيات لمواجهة التحديات المقبلة، وكيف يمكن حلحلة عقدة المشكلات المزمنة.

الصناعي ماهر الزيات وصف القطاع الصناعي في سوريا بأنه في أضعف حالاته اليوم، قائلاً: “نحن في أزمة كبيرة، الاقتصاد ضعيف، والسبب أن الصناعة المحلية ليست مستعدة للمنافسة العلنية”.

وأشار في تصريح لموقع “نون بوست” إلى أن الصناعي السوري كان يعمل تحت ظروف عمل صعبة وغير مشجعة على الإنتاج، فأسعار المواد الأولية ارتفعت بشكل كبير نتيجة منصة التمويل التي كانت سائدة زمن النظام، والتي كانت سببًا في إخراج الصناعة السورية من مضمار المنافسة، عدا عن غياب التمويل.

ويضيف أي صناعي يحتاج إلى سيولة لتشغيل مصنعه عليه أن يتوجه للقروض، ولكن القروض في سوريا غير مساعدة، كونها بفوائد عالية تبلغ 24% وتصل إلى 30% مع بقية المصاريف، وهذه النسبة لا توجد في أي دولة في العالم.

واعتبر الزيات ذلك أنه “جريمة شكلت عبئاً مادياً كبيراً على الصناعيين”، مشيراً إلى أنه في حال أرادت أي دولة إنعاش اقتصادها فهي تتجه لتخفيض الفوائد إلى 2%، وليس رفعها كما يحدث في سوريا.

وحدد الزيات أسباب ضعف الصناعة السورية وهي ارتفاع أسعار الكهرباء بشكل كبير، عدا عن انخفاض الطاقة الإنتاجية وارتفاع التكاليف وقدم خطوط الإنتاج التي عمرها تجاوز 14 عاماً، بالإضافة إلى ضعف السوق الداخلي “الميت” والتصدير الضعيف، ما دفع بالكثير من المعامل للإغلاق. مستدركاً بالقول: “لسنا مستعدين للتحديات التي هي أقوى منا حالياً، نحتاج إلى تدارك ما سبق”.

كما أشار الزيات إلى أن الصناعة السورية فوجئت مع التحرير بدخول بضائع كثيرة ورخيصة الثمن ورديئة الجودة، ما أضعف الصناعة المحلية أكثر، فهي لا تزال مكبلة بظروف إنتاج غير صحية، والصناعي يبيع بضائعه بخسارة.

وعن المقترحات والتوصيات التي يجب على الحكومة السورية المؤقتة العمل عليها لدفع عجلة الإنتاج الصناعي، حدد الزيات جملة من التوصيات التي يجب العمل عليها.

وقال إن “تلافي المعوقات التي تم ذكرها هو بداية الطريق الصحيح. فعندما يتم تأمين كهرباء بأسعار عالمية، وليس بأسعار أعلى منها، وعندما يحصل الصناعي على تمويل بقروض منخفضة الفوائد، وعندما يستطيع الحصول على مواد أولية بسهولة ورخص، وأيضاً عندما تتوفر اليد العاملة، والأهم توفير عامل الأمان الذي يحتاجه أي صناعي ومستثمر، وعندما يتم تأهيل البنى التحتية، عندها تستطيع عجلة الإنتاج الصناعي البدء بالعمل، وطرح المنتجات للأسواق الداخلية والخارجية معاً. فالمنتج السوري خسر الكثير من الأسواق الخارجية لصالح المنتجات التركية والصينية، ولنا أمل في استعادتها”.

من جانبه وصف الخبير الاقتصادي أنس الفيومي القطاع الصناعي بأنه “مريض تحت الإنعاش، لتأتي قدم الممرضة المسؤولة عنه فتدوس على وصلة الأكسجين، ونرجو أن يتم إنقاذه قبل الاختناق”.

وقال الفيومي لموقع “نون بوست” إن القطاع الصناعي عانى من مشاكل، سواء في تأمين المواد الأولية أو مشاكل حوامل الطاقة أو معوقات التصدير والترفيق وتسلط جهات متعددة عليه، كالمالية وغيرها، ساهمت في “تطفيش” عدد كبير من الصناعيين، ومن صمد منهم من أصحاب الصناعات الخفيفة والمتوسطة الاستهلاكية، يأتي اليوم فلتان السوق ودخول بضائع رخيصة (بصرف النظر عن موضوع المواصفات فهذا أمر آخر) ليشكل عبئاً إضافياً على هذه الصناعات.

وأضاف “منذ نحو خمسة أعوام نبهنا إلى موضوع حماية الصناعات، ولا سيما المتوسطة، حين أثير موضوع منطقة القابون وما جرى فيها من حالة متناقضة حتى على المستوى الرسمي. فبعد إجراء الكشف عليها وإمكانية إعادة ترميمها ودعمها، يخرج قرار مناقض بإزالتها وتنظيمها، ليكون هذا القرار المؤشر القوي لفساد كبير وخطير مسّ معيشة مئات الأسر.

وأشار إلى أن مثال القابون ينطبق على مناطق كثيرة في عدد من المدن، جنت عليها قرارات جائرة غير مدروسة، وقدّمها كمثال للدلالة على الإجحاف الذي لحق بصناعات كان يجب أن تكون حاملة اقتصادية مهمة على الأقل لتأمين احتياجات وعمالة داخلية.

ورأى الفيومي أن أهم التحديات، فيما عدا رفع العقوبات بشكل كامل وحقيقي، هي تأمين حوامل الطاقة، وإعادة صياغة عدد من التشريعات التي تمس القطاع الصناعي، وخاصة فيما يتعلق بالضرائب والرسوم.

كما يجب تشكيل لجنة بأسرع وقت ممكن تضم صناعيين ومن الوزارات المعنية والمدن الصناعية، لإعادة هيكلة كل القرارات والتشريعات التي كانت سبباً في تراجع الصناعة السورية، ووضع مسار جديد لدعمها وحمايتها، خاصة من المنافسة غير الشريفة.

واعتبر الفيومي أن ذلك يعتبر أولى خطوات تغيير للواقع الصناعي الذي يستحق وصف “المحبط”، ولابد من جرعة إنعاش سريعة توضح اهتمام الحكومة بدعمه وتطويره.

خطوات لإنعاش الصناعة

الصناعي بلال إبراهيم أكد أن القطاع الصناعي السوري يمر بمرحلة شديدة الصعوبة، إذ يعمل في بيئة اقتصادية مضطربة وأمنية غير مستقرة، ويعاني من: انخفاض الإنتاج وضعف الاستثمارات وارتفاع تكاليف التشغيل وغياب الحماية الفعلية للمنتجات المحلية، وبات الأمن والاستقرار شرطاً أساسياً لاستمرار أي نشاط صناعي أو جذب أي استثمار جديد، إذ لا صناعة ولا إنتاج بدون بيئة آمنة تحفظ رأس المال والعمالة والممتلكات.

ورأى إبراهيم في تصريحه لموقع “نون بوست” أن أبرز التحديات والصعوبات التي تواجه الصناعة تتمثل بـ”ضعف الاستقرار الأمني في بعض المناطق الصناعية وانقطاع الكهرباء وارتفاع تكاليف الطاقة وصعوبة الحصول على المواد الأولية محليًا والمستوردة وانخفاض القدرة الشرائية للسكان وتراجع الطلب المحلي”.

إلى جانب “هجرة الكفاءات الفنية واليد العاملة المدربة إلى خارج البلاد وغياب التمويل البنكي والقروض التشغيلية الميسّرة والتشريعات الضريبية والجمركية غير العادلة مقارنة بالوضع الاقتصادي الراهن وغياب الحماية الفعلية للمنتجات الوطنية أمام تدفق المستوردات”.

وحدد إبراهيم الخطوات العاجلة التي يجب اتخاذها لإنعاش القطاع الصناعي وهي:

    تعزيز الأمن والاستقرار في المناطق الصناعية لضمان بيئة آمنة للمستثمرين والعمال والمنشآت.
    ضبط الاستيراد وتقييده لصالح حماية الصناعة الوطنية من المنافسة غير العادلة.
    منح قروض تشغيلية ميسّرة للصناعيين لدعم استمرار الإنتاج.
    دعم الصناعات الأساسية التي تلبي الاحتياجات المحلية وتملك فرص تصديرية (الغذائية، الدوائية، النسيجية، الكيميائية).
    تأمين الطاقة عبر حلول مستدامة أو دعم الطاقة البديلة للمصانع.
    تعديل القوانين الضريبية لتصبح أكثر عدالة ومرونة بما يتناسب مع حجم العمل الفعلي.
    تشجيع التصدير من خلال تقديم إعفاءات وحوافز ودعم لوجستي.

بدوره وصف محمد ركاد حميدي، صاحب مؤسسة حميدي للشحن، القطاع الصناعي حاليًا بأنه متهالك وخائف، ولا خطة أو مرجعية يمكنها توحيد الصناعيين ولم شملهم ووضعهم على سكة الإنتاج.

ويرى حميدي في تصريحه لموقع “نون بوست” أنه على الحكومة السورية المؤقتة العمل على إعفاء المواد الأولية ومستلزمات الإنتاج من الرسوم الجمركية، لمواكبة التقانة الحديثة وخفض كلف الإنتاج، للوصول إلى منتج ذي جودة عالية، بالإضافة إلى الإعفاء من كافة رسوم التصدير.

وبيّن أن القيود والعقبات التي جرت على الصناعة خصوصاً، وعلى البلاد عموماً، أدت إلى شلل جزئي وكلي للصناعة والتصدير، وبالتالي، لا منافسة، بل خسرت سوريا أسواقها التقليدية نسبيًا.

وقال: “لا يمكن تطبيق أي خطة حاليًا أو استراتيجية للصناعة السورية، ما لم تتوفر الطاقة أولاً، وقنوات مصرفية، ويد عاملة ماهرة، عندها نتكلم عن الخطط”. مستدركاً بقوله: “الصناعي السوري ماهر ومهني بامتياز، وقادر على النهوض بوقت قصير جداً، فهو يحتاج إلى مرجعية تتمتع بالثقة والمصداقية يأوي إليها لتوفير احتياجاته ومعالجة صعوباته”.

ختامًا.. الصناعة السورية تواجه أزمة مركبة، وتعرضت لهزات عنيفة، وهناك فرص متبقية أمام القطاع للبقاء على قيد الحياة، هي تلافي ما ذكرناه سابقاً، ومحاولة معالجته بشكل تدريجي، ولكن يجب الحذر من إبقاء الوضع على ما هو عليه، لأن ذلك سيكون بمثابة ترك المريض دون معالجة ليلقى حتفه مع الوقت.

وسيم إبراهيم

نون بوست

تعليقات الزوار
  1. تعليقك
  2. أخبرنا قليلاً عن نفسك