كارثة اقتصادية تلوح في الأفق: سياسة حبس السيولة… هل يدفع المواطن السوري الثمن
الاقتصاد اليوم ـ خاص:
بقلم المحامي الدكتور ايهاب ابو الشامات
تحليل اقتصادي يكشف مخاطر تجفيف النقد على الأسواق والاستقرار المعيشي للمواطن السوري
مقدمة
في ظل الأزمات الاقتصادية المتراكمة التي تعصف بسوريا، تتجه الحكومة إلى تبني سياسة "حبس السيولة" داخل المصارف في محاولة لضبط التضخم واستقرار سعر الصرف. ومع ذلك، فإن التجارب الاقتصادية العالمية والواقع المحلي يثيران المخاوف من أن هذه الخطوة قد تتحول إلى قنبلة موقوتة، يكون المواطن السوري أول من يدفع ثمنها على مستوى معيشته واستقراره المالي. فهل يمكن لهذه السياسة أن تحقق استقرارًا اقتصاديًا، أم أنها مجرد وصفة لتعميق الأزمة والانكماش الاقتصادي؟
ما هي سياسة "حبس السيولة"؟
تعتمد هذه السياسة على تقليل النقد المتداول في الأسواق من خلال عدة إجراءات، أبرزها:
• تقييد عمليات السحب من البنوك.
• تأخير صرف الرواتب والمستحقات المالية.
• خفض الإنفاق الحكومي.
• رفع أسعار الفائدة لجذب الأموال نحو المصارف.
وتهدف هذه الخطوات إلى تقليل الإنفاق للحد من التضخم، إضافة إلى تقليص المعروض النقدي لضبط سعر الصرف. لكن هل هذه السياسة كفيلة بتحقيق نتائج إيجابية بالفعل؟
التداعيات الخطيرة لهذه السياسة على الاقتصاد والمجتمع
1. شلل اقتصادي وركود غير مسبوق
• نقص السيولة سيؤدي إلى جمود الأسواق، حيث ستعاني القطاعات التجارية من ضعف القدرة على تمويل عمليات البيع والشراء، مما يؤدي إلى انخفاض حاد في النشاط الاقتصادي.
• تراجع قدرة المصانع والشركات على تأمين رأس المال اللازم للإنتاج، ما يرفع معدلات الإغلاق والتسريح الوظيفي.
• انخفاض الإنفاق الاستهلاكي سيؤثر سلبًا على أرباح الشركات، مما يدفع العديد منها نحو الإفلاس أو التوقف المؤقت.
2. انهيار الثقة بالنظام المصرفي
• القيود الصارمة على السحب والإيداع ستجبر المواطنين على اللجوء إلى القنوات غير الرسمية للحصول على النقد، ما يعزز من توسع السوق السوداء.
• تراجع ثقة المستثمرين في البنوك المحلية سيؤدي إلى هروب رؤوس الأموال إلى الخارج أو إلى ملاذات أكثر أمانًا، مثل الذهب والعقارات.
3. تفاقم معاناة المواطن السوري
• تدهور القدرة الشرائية بسبب قلة الأموال المتاحة، مما يجعل المواطن غير قادر على تغطية احتياجاته الأساسية.
• زيادة معدلات الفقر والبطالة نتيجة انكماش الأنشطة الاقتصادية، ما يؤدي إلى مزيد من الضغوط المعيشية على الأسر السورية.
• انتشار السوق السوداء كبديل رئيسي للحصول على النقد، ولكن بتكاليف مرتفعة وأسعار غير مستقرة.
دروس من تجارب دولية مماثلة
1. تجربة لبنان: من قيود مصرفية إلى انهيار شامل
• فرضت المصارف اللبنانية قيودًا على السحب بالدولار والليرة، ما تسبب في انهيار الثقة بالنظام المصرفي وانتشار السوق السوداء.
• أدى نقص السيولة إلى شلل الأسواق، وزيادة معدلات الفقر والجوع.
• المواطن اللبناني واجه أزمة غير مسبوقة من ارتفاع الأسعار، وانخفاض الدخل، وانعدام الفرص الاقتصادية.
2. تجربة العراق: سياسة التقشف وتأثيرها الكارثي
• اعتمدت الحكومة العراقية سياسة تقشف شملت تقييد الإنفاق وتأخير دفع الرواتب، مما أدى إلى ركود اقتصادي واسع.
• تراجعت مستويات المعيشة وارتفعت معدلات البطالة والفقر بشكل كبير.
3. تجربة مصر: تعويم الجنيه وإصلاحات نقدية حذرة
• عند تعويم الجنيه المصري عام 2016، شهدت مصر نقصًا حادًا في السيولة، لكن السياسات الاقتصادية الداعمة للقطاع الإنتاجي خففت من آثار الصدمة لاحقًا.
• الدرس المستفاد: تجفيف السيولة وحده ليس حلًا، بل يجب أن يكون جزءًا من إصلاح اقتصادي شامل.
ما هي البدائل لتجنب كارثة اقتصادية في سوريا؟
1. تعزيز الإنتاج المحلي
• دعم قطاعي الزراعة والصناعة لتقليل الاعتماد على الواردات، مما يساهم في استقرار الأسعار.
2. إصلاح النظام المصرفي
• إعادة الثقة في البنوك من خلال سياسات شفافة تضمن سهولة السحب والإيداع، وتشجع المواطنين على إبقاء أموالهم ضمن النظام المصرفي.
3. جذب الاستثمارات الخارجية
• إصلاحات قانونية وتنظيمية: تحديث قوانين الاستثمار لحماية المستثمرين الأجانب، وتقليل العقبات البيروقراطية التي تعيق دخولهم للسوق السورية.
٤. بيع الأصول المملوكة للنظام السابق: فرصة لتنشيط الاقتصاد وجذب العملة الصعبة
ما المقصود ببيع الأصول المملوكة للنظام السابق؟
يشير هذا المفهوم إلى تحويل الأصول التي كانت تحت سيطرة النظام السابق – سواء كانت عقارات، استثمارات، أو شركات تجارية – إلى مشاريع إنتاجية عبر بيعها لمستثمرين محليين أو أجانب بطريقة شفافة وعادلة. غالبًا ما كانت هذه الأصول تُستخدم كمصادر لتمويل النظام البائد، مما يجعل إعادة توظيفها اقتصاديًا خطوة ضرورية لضمان الاستفادة منها في تحفيز الاقتصاد الوطني وجذب العملات الصعبة إلى خزينة الدولة.
الآلية القانونية لبيع الأصول المملوكة للنظام السابق
تعتمد عملية بيع هذه الأصول على إطار قانوني واضح لضمان الشفافية وتحقيق أقصى فائدة للاقتصاد الوطني. تشمل هذه الآلية الخطوات التالية:
1. إنشاء هيئة مستقلة لإدارة الأصول المصادرة
يتم تشكيل هيئة حكومية مستقلة تتولى إدارة الأصول التي كانت مملوكة للنظام السابق.
تخضع هذه الهيئة لرقابة قضائية وتشريعية لضمان عدم إساءة استخدام عمليات البيع أو تحويلها إلى صفقات فاسدة.
2. إجراء تقييم مالي شفاف للأصول
يتم تعيين شركات تدقيق دولية مستقلة لتقييم القيمة الحقيقية لهذه الأصول وفقًا لمعايير السوق
الهدف من هذا التقييم هو تجنب بيع الأصول بأسعار أقل من قيمتها العادلة، مما يضمن تحقيق أعلى عائد ممكن للدولة.
3. طرح الأصول للبيع عبر مناقصات علنية
تُعرض الأصول في مزادات علنية أو مناقصات مفتوحة، بحيث يتمكن المستثمرون المحليون والدوليون من التنافس على شرائها بشفافية.
يتم نشر تفاصيل المزادات والشروط القانونية عبر وسائل الإعلام الرسمية لضمان مشاركة واسعة وتحقيق أفضل العروض.
4. وضع ضوابط تمنع إعادة استحواذ المقربين من النظام السابق على الأصول
يُمنع قانونيًا على الأفراد أو الجهات التي كانت جزءًا من النظام السابق أو التي دعمت تمويله من استعادة ملكية هذه الأصول بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
يمكن فرض شرط الإفصاح عن المستفيدين النهائيين لضمان عدم وجود عمليات شراء وهمية لإعادة الأصول لنفس الجهات القديمة.
5. توجيه العائدات إلى مشاريع تنموية بدلاً من المصروفات الحكومية
يتم تخصيص إيرادات بيع هذه الأصول لدعم مشاريع البنية التحتية، وبرامج إعادة الإعمار، وتحفيز القطاعات الإنتاجية مثل الصناعة والزراعة.
يمكن أيضًا إنشاء صندوق سيادي يتم إدارته بطريقة احترافية لاستثمار العائدات في أصول أخرى تدر أرباحًا مستقبلية للدولة.
تجارب دولية ناجحة في بيع أصول الأنظمة السابقة
1. تجربة ألمانيا الشرقية بعد الوحدة (1990)
بعد انهيار جمهورية ألمانيا الشرقية واندماجها مع ألمانيا الغربية، تم إنشاء "وكالة التخصيص" (Treuhandanstalt) لإدارة الأصول المملوكة للنظام الشيوعي السابق.
قامت الوكالة ببيع آلاف الشركات والمصانع الحكومية للمستثمرين الأجانب والمحليين، ما أدى إلى جذب مليارات الدولارات من الاستثمارات.
على الرغم من التحديات الأولية، ساهمت هذه السياسة في تحديث الاقتصاد الألماني الشرقي وتسريع عملية الاندماج الاقتصادي.
2. تجربة العراق بعد سقوط نظام صدام حسين (2003)
بعد الإطاحة بنظام صدام حسين، واجه العراق تحديًا كبيرًا في إعادة هيكلة الشركات والمؤسسات التي كانت مملوكة للدولة.
تم بيع بعض الأصول من خلال مناقصات دولية، بينما تم تحويل بعضها الآخر إلى شركات مساهمة عامة مفتوحة للمستثمرين.
ساعدت هذه الخطوات في إدخال رؤوس أموال جديدة إلى الاقتصاد العراقي، وساهمت في تعزيز القطاع الخاص وتقليل الاعتماد على الدولة في إدارة الأعمال.
3. تجربة دول أوروبا الشرقية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي (1991-2000)
اعتمدت العديد من دول أوروبا الشرقية مثل بولندا، التشيك، والمجر على برامج خصخصة واسعة لبيع الشركات الحكومية التي كانت تعمل وفق النموذج الاشتراكي.
تم تنفيذ هذه البرامج من خلال طريقتين رئيسيتين: البيع المباشر للمستثمرين الأجانب والمحليين، أو توزيع أسهم الشركات على المواطنين بأسعار رمزية.
ساهمت هذه الخصخصة في إدخال استثمارات أجنبية ضخمة، وتحسين كفاءة الشركات، وتعزيز تحويل العملات الصعبة إلى اقتصادات هذه الدول.
الفوائد الاقتصادية لبيع الأصول المملوكة للنظام السابق
1. جذب العملة الصعبة إلى خزينة الدولة
عند بيع الأصول لمستثمرين أجانب، يتم ضخ استثمارات بالعملة الأجنبية مباشرة في الاقتصاد الوطني، مما يساهم في دعم الاحتياطيات النقدية وتقليل الضغط على سعر الصرف.
2. تحفيز القطاع الخاص وخلق فرص عمل
تتيح هذه العملية للقطاع الخاص امتلاك وإدارة أصول إنتاجية، مما يؤدي إلى زيادة النشاط الاقتصادي، وتحسين الإنتاجية، وخلق وظائف جديدة.
3. إعادة توزيع الثروة بشكل أكثر عدالة
بدلاً من استمرار سيطرة مجموعة محدودة على هذه الأصول، يتيح بيعها الفرصة لدخول مستثمرين جدد إلى السوق، مما يعزز المنافسة الاقتصادية.
4. تحسين كفاءة الأصول وإدارتها
غالبًا ما تعاني الأصول التي كانت مملوكة للنظام السابق من الفساد وسوء الإدارة. عند خصخصتها أو بيعها لمستثمرين أكفاء، تصبح أكثر إنتاجية وأفضل استغلالًا.
5. تحقيق الاستقرار المالي وتقليل العجز في الميزانية
يمكن استخدام العائدات لسد العجز المالي وتمويل المشاريع التنموية، مما يقلل من الحاجة إلى الاقتراض الخارجي ويعزز الاستقرار الاقتصادي.
خاتمة: النظام السابق يجب أن يدفع الثمن، وليس المواطن السوري
إن استمرار السياسات المالية الحالية في سوريا يزيد من الأعباء المعيشية على المواطن السوري، الذي بات يدفع ثمن أخطاء الماضي وسوء الإدارة الاقتصادية. ومع ذلك، فإن الحل لا يكمن في التضييق على السيولة أو فرض مزيد من القيود، بل في تحميل النظام السابق المسؤولية الاقتصادية عبر بيع أصوله وممتلكاته التي استُخدمت في تمويل سياساته، وتوجيه عائداتها نحو إعادة بناء الاقتصاد الوطني.
لقد أثبتت تجارب الدول الأخرى أن تحميل الأنظمة السابقة كلفة أخطائها الاقتصادية، من خلال استعادة الأصول وإعادة توزيعها بطريقة شفافة، يمكن أن يكون أداة قوية لتحقيق العدالة الاقتصادية، وجذب الاستثمارات، وتوفير موارد مالية تساهم في تحسين معيشة المواطنين بدلاً من تحميلهم عبء الأزمة.
على صناع القرار في سوريا أن يدركوا أن السبيل إلى التعافي الاقتصادي لا يكون بفرض مزيد من القيود على المواطنين، بل بتوجيه الموارد نحو التنمية، والاستفادة من أصول النظام السابق لإعادة بناء الاقتصاد على أسس أكثر عدالة وكفاءة. فهل سيتم اتخاذ الخطوات الصحيحة لضمان مستقبل أفضل لسوريا وشعبها؟ أم سيستمر المواطن في دفع ثمن أخطاء الماضي؟
تعليقات الزوار
|
|