ماذا يحتاجُ السُّورِيُّون؟.. وأي مَهَامّ وتَّحَدِّيَات أَمَامَهُم اليَوم؟
الاقتصاد اليوم ـ خاص:
كتب عقيل سعيد محفوض
مركز دمشق للأبحاث والدراسات "مداد"
هل تمكَّنَ السوريون من الاتفاق على ماذا يحتاجون، وأيّ مهام تقع على عاتقهم أو تواجههم بعد حربٍ مدمرة طالت كلَّ شيء تقريباً في الظَّاهرة السورية اليوم، وهل اتفقوا على "كيف" يمكنُ لهم الوصول إليه (الاتفاق)، وأين هي "نقطة البدء" في محاولة كل ذلك، و"من" هي فواعله، وأي "خارطة طريق" ممكنة بهذا الخصوص؟
سبّبت الحرب صدمة فائقة لدى السوريين، وظهر أن إرادة العيش في فضاء اجتماعي ومجتمع واحد كانت –في جوانب كبيرة منها– وهماً أو ادّعاءً أو ربما نفاقاً، وأنَّ فواعل كثيرة في الاجتماع والسياسة والفكر كانت تنتظر لحظة أو فرصة سانحة لـ "الانقضاض" ليس على السلطة أو النظام السياسي والدولة، وإنما على المجتمع أيضاً.
وإلا ما الذي يفسِّر الانزلاق المهول لـ "التطييف" و"المذهبة" و"الارتزاق" و"الغنيمة" ودعوات "الإبادة" و"التطهير العرقي" و"الديني" منذ بدايات الحرب، حدث شيء من "التمزق" و"التشظي" للمجتمع إلى بنى وتكوينات وفواعل وجهات ومناطق وولاءات ورهانات مختلفة بلغَ حد التناقض والتقاتل على كل شيء، بما في ذلك على ما لا يملكون من أمره شيئاً: الجنة والنار!
مما يحتاجه السوريون اليوم، هو التفكير في وضع "خطة استجابة" نشطة وفعالة، تُوقِف تدهور "القيم المشتركة"، وتزايُد الفجوة في مداركهم وتطلعاتهم حول طبيعة المجتمع والدولة، ما يهدد فكرة "مجتمع واحد" و"دولة واحدة"، والفجوات أو الصدوع في مداركهم حول التعدد الاجتماعي: الديني والثقافي والعرقي واللغوي والجهوي/المناطقي والطبقي وحتى الجندري.
يحتاج السوريون إلى سياسات تُوقف: تدهوُرَ قيمة الحياة ومؤشراتها الأساسية، وقيمة الإنسان الذي أصبح "بلا معنى" تقريباً، وتدهوُرَ قيم "الوطن" والانتماء له، وتزايد الخوف والاغتراب والتخلي، وتراجع الثقة بالمستقبل. وقد أخذ الموتُ يمثل ظاهرة "أقل من عادية" لديهم، وليس "عملاً شاقاً"!
اكتشف السوريون أن "الحياة ممكنة" في ظل الحرب، كما أن الحرب "خلَّاقة" و"ولودة"، ويمكن لها أن تمثل فرصة مثلما تمثل تهديداً، وأن لديهم احتياجات وتطلعات متناقضة حيال الدولة، مثل: الشعور بالحاجة لوجود دولة قوية - دولة ضعيفة في آن، دولة مركزية - دولة لا مركزية، الدفاع عن الدولة - اغتنام الدولة في آن أيضاً.
يحتاج السوريون اليوم لـ التمسك بالبديهيات أو ما يجب أن يقوم مقام البديهيات مثل: أولوية الدولة زمن الحرب، وأولوية المجتمع زمن السلم؛ وصحة القضية، وصحة الموقف؛ وقوة الحق التي لا تُبطِلُها قوة العدو؛ وخوض حرب المعنى، والوقوف في وجه سيل الهزيمة الجارف، ومقاومة الانكسار، ورفض الارتماء في أحضان الخصوم –وحتى الحلفاء– وتمثّل إراداتهم ورهاناتهم، واحتواء ما يُهدد بتدمير كل شيء تقريباً، وعناوينه هي: الحرب المذهبية والطائفية، والهيمنة الأمريكية، وعماء الليبرالية، وعماء النفط، والعماء الديني والطائفي، إلخ.
يحتاج السوريون اليوم إلى "إعادة التفكير" في كل شيء تقريباً، مما يتصل بالهوية والشخصية الوطنية، والتاريخ، والدين، والاجتماع، إلخ، ووعي أسباب "تآكل" المشروع الوطني والحضاري، و"تراجع" مشروع الدولة طوال قرن تقريباً على ولادتها أو تأسيسها الحديث، ووعي أسباب الهزيمة المتكررة أمام مشاريع الهيمنة الغربية والمشروع الصهيوني، وتصاعد المشروع الإسلاموي (الإخواني، الوهابي)، وبروز المشروعين التركي والإيراني، وإخفاق المشروع العربي أو السوري أو المشرقي، إن أمكن التعبير.
لعلّ أكثر اللحظات صعوبة هي أكثرها خصوبة، إذ تتفتح الأسئلة والممكنات، وتتغير حدود وشروط التفكير، وأنماط الاستجابة
للتحديات، وهذا ما يفترض أن يحدث للسوريين بعد صدمة اندلاع الحرب، وبعد مضي سنوات عليها؛ لكن المفارقة أن هذا لا يحدث أو أنه لم يحدث حتى الآن، أو أنّ "ما حدث" لم يكن على مستوى التحدي.
إن السؤال عما يحتاجه السوريون اليوم، ربما انفتح أو فتح على مفردات وموضوعات هي أسئلة أكثر منها إجابات، وقد لا يُطلب من السؤال أكثر من ذلك، أي أن يولّد المفارقات، ويكشف عن الالتباسات، ويشرّع للمزيد من الأسئلة، وحسب هذه الورقة أنها حاولت ذلك!
تتألف الدراسة من مقدمة وستة محاور، أولاً- في الرؤية والمقاربة، ثانياً- وَعيُ اللّحظة، ثالثاً- الحياة ممكنة في ظل الحرب! رابعاً- الوضوح والصدق والتناقض، خامساً- الحق وقوته، سادساً- أعراض "فوق مَرَضية"، وأخيراً خاتمة.
"ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"
المسيح
"ليس الماء وحده جواباً عن العطش"
أدونيس
هل تمكَّنَ السوريون من الاتفاق على ماذا يحتاجون، وأي مهام تقع على عاتقهم أو تواجههم بعد حرب مدمرة طالت كل شيء تقريباً في الظاهرة السورية اليوم، وهل اتفقوا على "كيف" يمكنهم الوصول إليه (الاتفاق)، وأين هي "نقطة البدء" في محاولة ذلك، و"من" هي فواعله، وأي "خارطة طريق" ممكنة بهذا الخصوص؟
الجواب الأولي – وأرجو أن ألا يكون متسرعاً– هو أنهم، حتى الآن، لم يفعلوا شيئاً من ذلك تقريباً، صحيح أنَّ ثمة كلاماً كثيراً في هذا الباب: نصوصاً ومذكراتٍ وعناوينَ وبرامجَ وتقاريرَ وندوات لمراكز أبحاث وجمعيات ومنتديات ومنظمات حكومية وغير حكومية في الداخل والخارج ؛ لكنه لم ينل تلقياً أو قبولاً واسعاً، بما يجعله مشروع إجابة عن أسئلة ما يحتاجه السوريون بالفعل.
ربما كان الكثير مما صدر من قراءات وتقديرات حول احتياجات السوريين في الحرب، لا يعبّر عن إرادة سورية أو إرادة سوريين، ومن ثم فقد لا يكون تفكيراً سورياً أو من فواعل أو رهانات "محض سورية"، وهذا يعني أنه لا يمثل –بنظر شريحة قد تكون كبيرة من فواعل الفكر والسياسة– جزءاً من الاستجابات المفترضة أو المأمولة على مستوى "الحدث السوري" و"الظاهرة السورية" و"الشخصية الوطنية السورية"، وهذه تعابير من المفترض أن نأخذها الآن بمعانيها التلقائية ودلالاتها العامة، ولو أنها تتطلب المزيد من التدقيق والتأطير.
الأهم في ما نبحث فيه هو "خط المعنى" المتصل في محاولات الإجابة عن السؤال الرئيس لهذه الدراسة: ما الذي يحتاجه السوريون اليوم؟ تتجاوز التفاصيل والاحتياجات اليومية، ليس بالتعالي عليها أو القفز فوقها، وإنما بالمرور بها وأخذها بالاعتبار اللازم؛ وقد لا تأتي الورقة على تفاصيل ما يحتاجه السوريون مما أشرنا إليه، لكن ذلك هو قلب كل تقدير لها عمّا تفترض أنه احتياجات سورية لازمة من أجل استجابة عميقة ومديدة وفعالة ودائمة، إذا أمكن التعبير على هذا النحو.
والنصّ إذ يطرح السؤال فهو لا يزعم أنه يدشن أو يفتتح أي أجندة سياساتية، ولا يحل في ما يقوله أو يطرحه محلّ أي مشروع أو مقترح بهذا الخصوص مهما كان، وأقصى ما يحاوله هو التعبير "من داخل" هذا البلد المشرقي الجميل، و"من داخل" فضائه المعنوي والرمزي والقيمي عما يفترض –وهذا ما تتكرر الإشارة إليه– أن السوريين يحتاجونه في ضوء تجربة الحرب اليوم.
تتألف الدراسة من مقدمة وستة محاور، أولاً- في الرؤية والمقاربة، ثانياً- وَعيُ اللّحظة، ثالثاً- الحياة ممكنة في ظل الحرب! رابعاً- الوضوح والصدق والتناقض، خامساً- الحق وقوته، سادساً- أعراض "فوق مَرَضية"، وأخيراً خاتمة.
أولاً- في الرؤية والمقاربة
يبدو السؤال عما يحتاجه السوريون، وأي مهام تقع على عاتقهم أو تواجههم أو يواجهونها اليوم، كبيراً ومعقداً، غير أن "تحديد" أو "تعيين" ما يريدونه أو يحتاجونه، عاجلاً وراهناً، قد لا يكون كذلك، أي لا كبيراً ولا معقداً، إنما ثمة حدود لما يحتاجونه، قريبة وبسيطة؛ ليس المطلوب "تحصيل السعادة"، ولا الدخول على خط المنافسة في مؤشر الشعوب الأكثر سعادة في العالم ، ولا الشعوب الأكثر سلماً، أو الشعوب الأكثر إنفاقاً على التسلية والترفيه، ولا الأكثر ادخاراً، ولا الأكثر مسالمة، إلخ، وإنما أن يكونَ الناسُ/الرعايا آمنين، ما أمكن من أمن، وألا يكونوا بائسين مهدورين. لكن هل تقف الاحتياجات عند هذا الحدّ؟
الجواب هو لا، ذلك أن الحاجة تُوَلِّد حاجة، كما يقول ماركس، وما أن يتحقق "الحد الأدنى" من الحاجات حتى يرتفع السقف إلى مستوى أعلى، إلى حاجات جديدة، وهكذا؛ لكن مرة أخرى، إن الحديث هو عما يحتاجه السوريون بصورة راهنة وعاجلة، ليس في اليوميات ومتطلبات العيش الأكثر إلحاحاً وضرورة، على أهمية ذلك، وإنما الاحتياجات المؤسِّسَة للسلام والأمن والاستقرار المديد والمكين، إذا أمكن التعبير، ذلك أن السوريين ليسوا أقل من غيرهم في طموحهم للتنمية والمشاركة والتطلع للرفاه والسعادة والمكانة والدور، بما هم أفراد وجماعات، وبما هم مجتمع ودولة!
يحيل منطوق السؤال إلى طيف واسع من الاحتياجات أو المهام والتحديات، بدءاً من المتطلبات الأساسية للعيش أو لمواصلة العيش في حالة الاضطراب أو حالة الحرب، مثل: المواد الغذائية والرعاية الصحية الأساسية، واحتواء العنف المادي والرمزي ضد الشرائح المستضعفة مثل النساء والأطفال ، والاستجابة لتحديات النزوح ، والفقر والجوع، والقتل، والخوف، والاختطاف؛ وصولاً إلى توقف الحرب واستعادة الأمن وبناء السلام.
وهذه عملية عادة ما تكون متشابكة ومعقدة، وتشهد اختلالات واهتزازات وأحياناً انتكاسات خطيرة، ومن ثم فإن مدارك الاحتياجات والمهام والتحديات، والتعبير عنها عادة ما تكون قلقة وغير مستقرة، وتتغير صعوداً ونزولاً، تفاؤلاً وتشاؤماً، بحسب تغير الأحوال والسياسات، بما في ذلك استجابة الناس لها.
قد تتمركز المدارك والتطلعات بشأن ما يحتاجه السوريون على ما كان قبل الحرب، بحيث تصبح لحظة ما قبل آذار/مارس 2011 هي "لحظة العَوْد" بالتعبير الأنثروبولوجي أو الميثي أو الديني، إلى أمن ونعيم كان –من هذا المنظور– موجوداً أو متاحاً، ثم تمّ تضييعه أو فقده أو إهداره أو العبث به وتفجيره.
وقد تتمركز المدارك والتطلعات على ما يعيشه سوريون آخرون هاجروا إلى خارج البلاد، ولكن ليس أي بلاد، وإنما أوروبا بصورة أساسية، كون أكثر اللاجئين السوريين توجهوا إليها. وسوف يكون التركيز على المعنى الأول، كونه الأقرب إلى مدارك متمركزة حول سورية نفسها، وهذا باب فيه كلام كثير!
ومن النادر أن "تعود" الأمور في أي بلد إلى ما كانت عليه قبل الحرب، وقد لا يكون ذلك مطلوباً بالتمام، ومن المؤمل أن تتجه للتمركز حول انطلاق من لحظة تأسيس جديد لمدارك احتياجات ومتطلبات واشتراطات العيش، ليس كأفراد فحسب، وإنما كمجتمع ونظام سياسي ودولة ودور وحضور وتأثير، إلخ.
لكن المعنى المراد من السؤال في هذه الدراسة هو ليس منطوقه أو ملفوظه، بمعانيه التلقائية وما يحيل إليه، وإنما ما يحتاجه السوريون والتحديات التي تواجههم والمهام الملقاة على عاتقهم بالمعنى العاجل والمُلح، لكن العميق والمديد والتأسيسي والقارّ في آن؛ أي احتياجات ومهام وعي الحدث وفواعله ورهاناته، وأنماط الاستجابة المحتملة أو الواجبة حياله، وتدبير السياسة والمجتمع وأنماط القيم والدولة، إلخ، مما سوف تتناوله الورقة في الفقرات الآتية.
ربما لم يتّفق السوريون على تحديد أو تعيين ما يحتاجونه بالفعل، وأي مهام تواجههم أو يواجهونها، أو أي مهام تقع على عاتقهم، لكن من الواضح أن السقوف الفعلية أو الواقعية أو تحديات العيش اليومية تفرض حدوداً ومعانيَ هي "أقل بكثير" مما يبدو في ظاهر القول والخطاب.
وهذا أمر يمكن التدقيق فيه وتعيينه أكثر بإجراء مسوح ميدانية ودراسات حول مدارك وتوقعات وتطلعات الناس كما تظهر في طرائق تعبيرهم وأنماط عيشهم، وليس في نصوص الخُطب والمذكرات والبيانات الحزبية، وما يصدر عن المنتديات والمؤتمرات، إلخ، فهذا على أهميته إلا أنه يشتكي من مَوَاطِن خَلل وضعف كبيرة، لأن إكراهات الحرب عادة ما تخلق مدارك طارئة وغير مستقرة، أو مدارك قد لا تعبّر عن قابليات عميقة وقارة.
من المهم التنبّه إلى أنّ انخفاض سقف التوقعات، وتركيز الاهتمام على الأوليات والمعيوش، و"العزوف" عن السياسة العليا والمطالب العامة، قد يكون مظاهر خادعة أو مضللة، وهو يمثل فرصة وتهديداً في آن:
- فرصة من حيث إنَّ المطلوب من فواعل السياسة وأهل الحكم هو استجابات الحد الأدنى مع الوعد برفع سقف الاستجابات.
- تهديد من حيث وجود قابلية اختلال وتأزم اجتماعي، وربما الاضطراب وانفجار الأوضاع في حال وجود ظروف مواتية، من الداخل والخارج .
ثانياً- وَعيُ اللّحظة
يمكن الحديثُ عن "التباسٍ جماعيٍّ" في وعي الحدثِ السوريّ؛ وقد أدّت سيولة التدفّقات، بوصفها جزءاً من الحرب، إلى سوء تقدير في فهم ما يجري، وإلى استخلاصات متسرعة حول طبيعة المجتمع والدولة في سورية، وطبيعة التداخلات والتفاعلات والرهانات الداخلية والإقليمية والدولية حولها، وما زاد في تعقيد المشهد هو أنّ الرهانات كانت ولا تزال أقوى من الحدث، وأكبر من قدرة البلد على تحمله، ما يفسّر كيف أن "البعد السوري" أو "الداخلي" أصبح أقل حضوراً في تداخلات الحدث أو الظاهرة السورية اليوم.
وإذا كان السوريون بحاجة ماسّة لوعي وفهم ما يجري، فإنَّ سيولة الأحداث وتراكمها وتداخلها ربما شكلت المزيد من العقبات المعرفية والإدراكية التي تحول دون التوصل إلى فهم ووعي مطابق ونشط وفعّال للحدث، ويضع السوريين فعلاً أمام مهمة بالغة الصعوبة، ذلك أن وعي الحدث والتدخل عليه والعمل على هندسته وتكييفه وإبداله، يمثل هو نفسه جزءاً من ديناميات الحرب نفسها.
وهكذا فإن المهمة الرئيسة اليوم أمام السوريين هي "وعي اللحظة"، وهي –كما سبقت الإشارة– مهمة صعبة ومعقدة بقدر ما هي عاجلة ومُلحَّة، إذ إنَّ الوعي المطلوب هو وعي ما يجري، أسبابه ومحدداته، فواعله واتجاهاته، ووعي الاستجابة اللازمة حياله؛ وعي واستجابة، بالتزامن وليس بالتتابع، بالتفاعل والمداولة وليس بالقطيعة والمواجهة، إن أمكن التعبير.
يتطلب الأمر التفاعل مع المدارك والدوافع المخيالية لدى الفواعل والبنى النشطة في الاجتماع السوري، الفردية والجمعية، بكل مخزونها ومخبوئها والمسكوت عنه والمتنكر له فيها، ذلك أنّ ما تسكت عنه أو تتنكر له ... لا بد أن يظهر في وجهك تأزماً وانفجاراً اجتماعياً وسياسياً وتدخلاً خارجياً عندما تكون اللحظة مناسبة. وهذا ما يجعل المهمة أو الحاجة للتفكير والتدبير ضاغطة ولا تقبل التأجيل، وهي من أولى أولويات الأمن الوطني في هذه المرحلة، ولا بد أنها كذلك في المستقبل .
يتعلق الأمر بمهمة مركبة، تتمثل بالعمل ما أمكن على "تحرير العقل" و"فتح باب الاجتهاد" في الثقافة والاجتماع والسياسة، وتنمية الروح النقدية، والتنوير، والإيمان بالتعدد والتنوع، ونسبية المعرفة والحقيقة، والعمل ما أمكن على "تحريك" أو "تحرير" المخيال الجمعي أو المجتمعي من "أسر" ديناميات متعاكسة: الأولى إنسانية، حداثية، تنويرية، وطنية؛ والثانية لا إنسانية، لا حداثية، ظلامية، لا وطنية؛ لكن لصالح الدينامية الأولى، ما أمكن!
قد يكون من الصعب وَضعُ ميزانٍ واحد لكل ذلك، ميزان "لا منحاز" أو "منفصل" عن تفضيلات إيديولوجية وسياسية، وهذه مسألة بالغة الصعوبة، في مجتمع ممزق من الداخل، وممزق حيال الدولة والإقليم والعالم.
سبّبت الحرب "صدمة فائقة" لدى السوريين، وظهر أن "إرادة العيش المشترك" في فضاء اجتماعي ومجتمع واحد كانت –إلى حد ما– "وهماً" أو "ادّعاءً" أو ربما "نفاقاً"، وأنَّ فواعل كثيرة في الاجتماع والسياسة والفكر كانت تنتظر لحظة أو فرصة سانحة لـ "الانقضاض" ليس على السلطة أو النظام السياسي والدولة، وإنما على المجتمع أيضاً.
وإلا ما الذي يفسّر الانزلاق المهول لـ "التطييف" و"المذهبة" و"الارتزاق" و"الغنيمة" ودعوات "الإبادة" و"التطهير العرقي" و"الديني" منذ بدايات الحرب، حدث شيء من "التمزق" و"التشظي" للمجتمع إلى بنى وتكوينات وفواعل وجهات ومناطق وولاءات ورهانات مختلفة بَلَغَ حد التناقض والتقاتل على كل شيء، بما في ذلك ما لا يملكون من أمره شيئاً: الجنة والنار!
بدا "الخروج" على النظام السياسي والدولة –في جانب منه– كما لو أنه "انتقام" ممن فرض بالقوة على تلك "المكونات" أن تعيش تحت عنوان واحد وهو "المجتمع والدولة"، وهي لا تريد ذلك أو أنها تريده لكن بصورة مختلفة، ربما على قاعدة "الِمَلل والنِّحَل" التي كانت أيام السلطنة العثمانية، وحتى قبلها.
ويأتي في هذا السياق كلام بعض الكتاب ومثقفين عن "الهوية السُّنية" لسورية ، و"العلوية السياسية" ، ودعوات عدد منهم لـ "الإبادة" و"التطهير الديني" أو "التهجير" لـ "طوائف آثمة" و"مدن آثمة" وكذلك شرائح اجتماعية من تجار ورجال دين وكتاب وغيرهم لأنهم لم يشاركوا في "الثورة" !
ما يجري في سورية اليوم هو أن مجموعة فواعل سورية للحرب، تحديداً ممن وقفت إلى جانب النظام السياسي والدولة، هي أقرب لـ "التمسك" بالوضع الراهن ، على قساوته ومخاطره، مخافةَ أن تتدهور الأمور، وقد كانت كذلك طوال عدة سنوات من الحرب، وحتى لا يأتي آخرون لـ "الإمساك" بالمجتمع والدولة، أو ألا يتمكنوا من تفجيرهما، ولو أنهم نجحوا إلى حدٍّ كبير نسبياً في النقطة الأخيرة، أي تفجير البلد؛ وثمّة من السوريين من يدافع عن شرط حياة أولي (متطلبات الحد الأدنى)، وليس عن موارد وأوضاع هو راض عنها وسعيد بها تماماً.
ثالثاً- الحياة ممكنة في ظل الحرب!
تُقدّم التقارير المحلية والدولية صورة كارثية عن الأوضاع في سورية جرّاء الحرب التي ألحقت أضراراً كبيرة في قطاعات كثيرة في البلاد ، ومن ذلك أنَّ نحواً من ثلث المساكن قد تضرر جزئياً أو تدمّر كلياً، ونحو نصف المنشآت الطبيعة والتعليمية، كما اضطر أكثر من نصف السكان إلى مغادرة منازلهم، في نزوح أو انتقال قسري أو اضطراري بتأثير الحرب، ومنهم من دفعته مدارك وتقديرات الحرب إلى الهجرة إلى الخارج، ليس بسبب التهديد المباشر بالضرورة، إنما هروباً من ضغوط الحرب وبحثاً عن فرصة عيش وحياة أفضل.
أدت الحرب إلى سقوط عشرات آلاف الضحايا والمفقودين وملايين اللاجئين، وتعطّل كبير لقطاع الصحة والتعليم والخدمات العامة، وارتفاع نسبة البطالة بين الشباب إلى 78% حسب تقرير للبنك الدولي ، وعودة أمراض كشلل الأطفال وغيره في بعض المناطق .
وحدث تدفق مهول للصور والأخبار والمعطيات عن سورية، كجزء من ديناميات الحرب وليس مجرد تغطية لما يحدث في الواقع، كان المطلوب أن تصير سورية في الواقع على شاكلة الصورة المقدمة عنها، وقد حدث ذلك إلى حدّ بعيد، فأصبحت سورية حسب التقديرات العالمية بلداً للموت وليس للحياة، لكن الجانب الآخر من المشهد لم يعط أيَّ اعتبارٍ قريبٍ، مقارنة بجوانب الحرب.
تتحدث الدراسات الاجتماعية والسكانية عن زيادة كبيرة في أعداد المواليد طوال الحرب ، ربما بأكثر مما كان قبلها، وعندما يقرأ السوريون أو المتلقون من غير السوريين عن أرقام المواليد لدى اللاجئين السوريين في لبنان أو غيره ، وحتى لدى السوريين في مناطق سيطرة الجماعات المسلحة، الغوطة الشرقية مثلاً ، يدهشهم كيف يحدث ذلك في ظل ضغوط وإكراهات الحرب، مع ما يُفترض أنه "حصار" و"عنف" و"صعوبات" في تأمين أدنى متطلبات العيش.
ثمّة مداخل تفسير عديدة لهذه الظاهرة، ولكن الخيط الرئيس الذي يجمعها هو أن الحرب والتهديد يخلقان أنماطاً من الاستجابة، ربما لا واعية أو غير مقصودة بالتمام، تتمثل بزيادة المواليد، حتى لو ترافق ذلك مع صعوبات كبيرة في تأمين الموارد والرعاية الصحية، إلخ.
اكتشف السوريون أن الحياة ممكنة في ظل الحرب، كما أن الحرب خلَّاقة وولودة، ويمكنها أن تمثّل فرصة مثلما تمثّل تهديداً، ولذا فإنَّ الكثير منهم "لم يضبّوا الشناتي" للهجرة أو اللجوء ، وفضّلوا البقاء في ظل الحرب، يكابدون العيش في ظروف غير اعتيادية؛ ولا بد أن الحرب مَثَّلَت فرصةً لشريحة منهم، إذ غيرت أحوالهم وفتحت لهم أبواباً كانت مغلقة قبل ذلك!
مثّلت الحرب "بطاقة عبور" إلى دول الجوار، وتلقّي أنماط من المعونات والمساعدات، ثم الانتقال إلى دول أبعد وأفضل مثل أوروبا والأمريكيتين وغيرها، ليس فقط للهروب من الحرب المباشرة، وإنما للبحث عن فرصة في الخارج . لكن الجهد الكبير كان في تبعات الحرب والاستجابات الملازمة لها في داخل البلد، وبخاصّةٍ على صعيد العيش والعمل والانتقال أو الهجرة الداخلية من مناطق سيطرة الدولة أو إليها، ولعلّ الانتقال إليها كان أكبر نسبياً مقارنةً بما كان من هجرة أو انتقال إلى مناطق "خارج سيطرة الدولة"، وأما المقارنة مع الهجرة إلى خارج البلاد فتتطلب حيّزاً بحثياً مختلفاً.
إنَّ "التكيف" مع الحرب و"تكييفها"، هو تعبير عن قوة اجتماعية ونفسية هائلة، ولا مبالغة في ذلك، لكنها لا تزال "قوة مقاومة" وليس "قوة مبادأة"، ومن ثم فإن ما يحتاجه السوريون هو إرادة تحويل اليأس والتشاؤم والحزن والتكيف والمقاومة إلى قوة تغيير وإقدام ومبادرة، وكسر النمطية الحاكمة أو المقيدة لتطوير السياسات، وهذا لا ينطلق من الأمل ، وإنما من انسداد الأفق أمام أي احتمال أو إمكانية لبقاء الأمور على هذا النحو!
رابعاً- الوضوح والصدق والتناقض
يُعَدُّ صعباً بمكان وضع ما يقوله السوريون أو يعبرون عنه في ميزان الوضوح والصدق بإطلاق، ثمة ميزان ملتبس يتطلب مراجعة وتدقيقاً، إذ إنَّ جانباً مما يقولونه في الحرب لا بد أن يكون واضحاً صريحاً، بمعنى: أنه يعكس تقديراتهم أو تقديرات فواعل أساسية ورئيسة منهم، حول ما يجب قوله، وحول ما يكون مناسباً الإفصاح-السكوت عنه، باعتبار الأوضاع والظروف القائمة، وضرورة مراعاة وجود فواعل يجب "استقطابها" و"استمالتها"، وأخرى يجب "تحييدها" أو حتى "استدراجها" أو ربما "تضليلها"، إلخ.
والواقع أنَّ ما حاولت فواعل الحرب، مثل المعارضة، "السكوت عنه" في خطابها السياسي والإعلامي، كانت المظاهرات والسلوك الميداني "يكشفان" خلاف ذلك، ومع ذلك فمن غير المؤكد أن ما كان يُفصح أو يسكت عنه السوريون المعارضون صادر عن وعي مستقر لديهم، ذلك أن الكثير مما يُقال ويعبر عنه في حالات الحرب يصدر عن مدارك وتقديرات ورهانات وتوقعات تحت ضغوط الحرب نفسها، أو بتأثير الحشد والتحريض والتدخل والتغلغل الخارجي والاستقطاب الداخلي، إلخ، ومن ثمّ فمن غير المرجح أن تكون تعبيراتهم وتعابيرهم دقيقة أو قارة بالتمام، ومن المعروف أن مدارك الحرب ورهاناتها تشهد تغيرات كثيرة بحسب تحولات ميزان القوة والسيطرة، واتجاهات المواجهة - الحل والتسوية، إلخ.
إنَّ الحديث عن خطاب الحرب وما بعدها، يجب ألا يغفل وجود "مسكوت عنه" و"متنكر له" و"لا مفكر فيه" و"ممنوع التفكير فيه" و"منسي" في كل ذلك، إذ إن خطاب وتعابير الحرب عادة ما تأتي في سياق الحرب نفسها، ونتيجة لإكراهاتها، واستجابة لرهاناتها وأولياتها، أي أنها أبعد ما تكون عن التلقائية والعفوية، فضلاً عن أنها تضخم ما تقبله وتفضله وتقلل مما ترفضه أو تفضّل غيره، ويمكن الحديث عن ديناميات اجتماعية شبه مستقرة في الاجتماع، وتتمثل بـ "النفاق" و"المراءاة" لما يوافق والرفض والتأثيم والتنكر لما يخالف. وهذه مسألة تتطلب المزيد من التدقيق والتقصي المعرفي والنفسي والاجتماعي والقيمي.
لكن، هل إن السوريين واضحون صريحون أو صادقون في التعبير عما يحتاجونه، الجواب هو: نعم، ولا!
- نعم:
هم صريحون وصادقون في التعبير عن الاحتياجات الحاضرة والمُلحّة، نتحدث عن صدق وصراحة، وليس بالضرورة عن عمق فكري وثقافي وقيمي، وليس المطلوب من المواطنين الذين يعبرون عن استيائهم من مؤسسات أو قطاع الخدمات العامة وغيرها أن يكون لديهم وعي وتعبير أو خطاب ثقافي وفكري عالي المستوى.
ومع ذلك فإنَّ التعبير عن الإحباط وعدم الثقة بل والسخرية من الخطاب السياسي والاقتصادي، كان واضحاً في مفاصل عديدة من الحرب، والأمثلة كثيرة: انظر مثلاً مدى الألم والإحباط من السياسات الخاصة بالمفقودين في أعقاب استعادة السيطرة على الغوطة بريف دمشق، وسياسات تأمين موارد الطاقة، وحتى السياسات الخاصة بانتخابات الإدارة المحلية.
- لا:
السوريون لم يكونوا صادقين أو صريحين أو واضحين بالتمام في التعبير عن احتياجاتهم، لأن التعبير كان يأتي غالباً في سياق ضاغط أو يتطلب المحاباة أو التكيف معه، ولا بد هنا من الأخذ بالحسبان اللاشعورَ السياسيَّ ووجود أولويات وتحيزات، وواقعاً تحت تأثير ضغوط وتطلعات مخيالية ثقيلة، وثمة إلى ذلك –المعذرة على الصراحة الزائدة نسبياً– نوع من "النفاق" من جهة والكيدية من جهة أخرى، نفاق لما يحب وكيدية لما يكره.
- التناقض
لدى السوريين احتياجات وتطلعات متناقضة، من وجهين رئيسين: الأول، هو التناقض بين السوريين على جانبي الحرب، وهذا أمر يكاد يكون بدهياً، إذ ماذا تعني الحرب إذا لم تكن تعني وجود تناقض في الاحتياجات والتطلعات؟ والثاني، هو الاحتياجات المتناقضة لدى الفاعل نفسه، شيء يشبه اعتقاد الشخص بالعقل والعلوم والأساطير والخرافات في آن، وهذا أمر موجود، كما في مدارك الناس واللاوعي الاجتماعي والسياسي، إلخ .
ويمكن أن يظهر هذا الوجه من التناقض في أمور عديدة، مثل:
- الشعور بالحاجة لوجود دولة قوية - دولة ضعيفة في آن، دولة مركزية - دولة لا مركزية، حسب تطلعات شرائح أو مجموعات معارضة.
- الدفاع عن الدولة ضد أعدائها – اغتنام الدولة في آن، حسب تطلعات الموالاة.
خامساً- الحق وقوته
ما يحتاجه السوريون أو المهمة التي يواجهونها اليوم هي "التمسك بالبديهيات" أو ما يجب أن يقوم مقام البديهيات مثل: أولوية الدولة زمن الحرب، وأولوية المجتمع زمن السلم؛ وصحة القضية، وصحة الموقف؛ وقوة الحق التي لا تبطلها قوة العدو؛
وإنَّ الإيمان بأنَّ الاضطرار لـ "مسالمة" العدو أو عدم محاربته يجب ألا يتحول إلى "قبول به"، وإنما إلى فرصة لمعرفته (العدو) أكثر، ومن ثم تأكيد القطع والقطيعة معه، ورفضه ومقاومته أكثر، ببناء الذات أو الشخصية الوطنية، ومراكمة عناصر القوة، لأن الحق "لا يسقط بالتقادم"، ولا يموت إذا كان وراءه مُطالِبٌ
،
ولأن القوة في حالة العداء لسورية لا تُقيّم حقاً، بل إنَّ الإيمان بالحق يجب أن يزداد قوةً ووضوحاً وإصراراً، ريثما تمكن الفرصة السانحة من أجل التغيير. وأرجو أني لا استخدم لغة فات أوانها!
يقول جوزيف سماحة، وكان ذلك قبل أكثر من عقدين: «عندما يتفاوض عدوان، يسجل واحد منهما انتصاره الأول على خصمه متى أرغمه على مغادرة بديهياته. البديهية الأولى هي أن "هذا الآخر" عدو. من تغيب عن وعيه هذه الحقيقة يبدأ الانزلاق نحو تسويات لا يحضر فيها الماضي ولا تحسب حساب المستقبل. يجري تزوير الماضي ويتم القبول بمستقبل غير متكافئ» . وهكذا فإن من المفترض أن يكون معيار صاحب الحق هو أنه على حق.
غير أنَّ صحة الخطاب ودقة الكلام وبلاغته لا تعني شيئاً ما لم تكن جزءاً من أجندة عمل فعلية، ليس لدى فواعل السياسة والحكم فحسب، ولا بد أن يكونوا كذلك، وإنما لدى فواعل التفكير والاجتماع والاقتصاد وغيرها أيضاً، أي جزء من عقد اجتماعي كلي يشمل الظاهرة السورية ككل، وبكل تفاعلاتها وتأثيراتها الممكنة أو المحتملة في الإقليم والعالم.
احتواء سيل الهزيمة
المهمة التي تواجه السوريين اليوم هي المسارعة لـ "احتواء": حرب المعنى، وسيل الهزيمة الجارف، و"الانكسار"، و"الارتماء في أحضان الخصوم"، وتمثُّل إراداتهم ورهاناتهم؛ احتواء ما يُهدد بتدمير كل شيء تقريباً، وعناوينه هي: الحرب المذهبية والطائفية، والهيمنة الأمريكية، والعماء الليبرالي، وعماء النفط، والعماء الديني والطائفي، إلخ.
ولعلَّ أهم المخاطرِ التي يواجهها السوريون أو تواجههم هي: التجاذبات حول إعادة تشكيل المنطقة العربية والشرق الأوسط لتكون "إسرائيل" صاحبة الكلمة العليا فيهما، وإن لم يكن فتركيا أو إيران أو الاثنتان معاً، وهُما أقرب لتنافسٍ في إطار تعاون وتفاهم، ولو أنهما ليستا سواء؛ ومن الواضح أن البدائل المطروحة ككل هي –مرة أخرى– ليست سواء، ويمكن القول إنها بين سيء، وأقل سوءاً، وغير مناسب، ويمكن التكيف معه، وحليف الضرورة والحرب؛ ومع ذلك ثمة من "يدعو إلى عيش هذا المأتم بصفته عرساً" !
من الواضح أن المهمة تفوق قدرة السوريين على تحملها، وقد لا يكونون بصدد مواجهتها بالفعل، إلا أنها تواجههم على أية حال، وبكل الأحوال؛ ومن ثم ليس ثمة بُد من أن يفعلوا شيئاً حيالها، لا خيار هنا، إلا إذا كانت إجهادات الحرب أثقلت كاهلهم وجعلتهم يركزون الاهتمام والموارد المعنوية والمادية على قضايا أقرب وأعدى للمعاجلة مثل أوليات الأمن ومتطلبات العيش، إلخ.
سادساً- أعراض "فوق مَرَضية"
كشفت الحرب عن أوضاع مرضية مزمنة، بل أوضاع "فوق مرضية"، ليس بالمعنى الصحي فحسب، وإنما بالمعنى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي، إلخ، ومن ذلك مؤشرات متزايدة على تشوّه معنى العيش والحياة، وتآكل فكرة الوطن والدولة والمجتمع ومعنى الصديق-العدو ... لدى شريحة قد تكون كبيرة من السوريين.
وقد برزت أنماط وعي وسلوك مناهضة للدولة أو نزعات "اللا دولة" أو اتجاهات متنافية مع فكرة الوطن مثل استعداد شريحة قد تكون كبيرة منهم لـ "لعمالة للخارج" و"الارتماء في أحضان" من كانوا حتى وقت قريب أعداء وخصوماً، وهذا ما حدث على صعيد علاقة مجموعات معارضة سياسية ومسلحة ومجتمعاتها بـ "إسرائيل"، وكذلك الأمر بالنسبة لتركيا والولايات المتحدة وفواعل أخرى.
كما برزت ظاهرةُ "الانقضاض على الدولة" بهدف "اغتنامها" –كما تتكرر الإشارة– من قبل المعارضين والموالين، إذا أمكن التعبير على هذ النحو، حيث إنَّ انخراط معارضين في الحرب من أجل إسقاط النظام السياسي طال الدولة أيضاً، وبدا أن الهدف الرئيس من كل ما جرى –ثمة أهداف وفواعل أخرى– كان "إسقاط الدولة" أو "الإمساك بها" أو "اغتنامها".
وتجد مثل ذلك لدى الموالاة أيضاً، ذلك أن دفاعهم عن النظام السياسي كان دفاعاً عن الدولة أيضاً، لكن ذلك لم يمنع شريحة قد تكون كبيرة منهم من النظر إلى الدولة بوصفها هدفاً يجب "اغتنامه"، من ثم فقد أظهر السوريون مدارك ونظم قيم وأنماط فعل واستجابة متشابهة حيال الدولة، ولو أن الأمر يتطلب المزيد من التدقيق والتقصي.
من ثم فإنَّ السوريين بحاجة إلى "جرعة كافية" من الوعي، ومن الإرادة والإقدام من أجل "احتواء" وربما "علاج" ما هم فيه. لكن من الذي سوف يحدد طبيعة تلك الجرعة، وكيف؟ فهذا أمر خلافي بطبيعة الحال، ولا بد أن يكون جزءاً من استجابة عاجلة وملحة، وأن تقوم بذلك فواعل على مستوى وطني، وهذا أضعف الإيمان!
الدعوة إلى "الإيمان"!
قد تكون الدعوة إلى الإيمان بالوطن نوعاً من البلاغية والدعائية والإنشائية الثقيلة، وبخاصّةٍ أن مزاج السوريين ربما لم يعد يستسيغ أو يتلقى مثل هذا النمط من الخطاب، وبالأخص أن خبرة السنوات الماضية والحرب أظهرت لهم قدراً كبيراً من "النِّفاق" و"الكَذِب" و"الاختلال" في الخطاب السياسيّ على جانبي الحرب، وقد يكون "النفاق" ظاهرة أكثر تأصُّلاً من ذلك، باعتبار نظم القيم الراهنة والنشطة في البلد والمنطقة والعالم.
لكنَّ السوريين مدعوون لمراجعة ما هم فيه، والتدقيق في ما هم بحاجته فعلياً من "جرعة كافية" من الإيمان بوطنهم، والالتزام به، والانتماء له، والدفاع عنه، ومن الواضح أننا نغامر باستخدام كلمات تكاد تكون فاقدة للمعنى بسبب فرط استخدامها في غير محلها.
الإيمان بالوطن والولاء له موجودان، ولا بد من ملاحظة ذلك وتبيانه، لكن من دون مبالغات خطابية وبيانية وإيديولوجية، وإلا ما معنى أن يُضحي عشرات بل مئات آلاف السوريين بحياتهم، وأن يقدّم آخرون الدم والجهد والعمل والمال في سياق الحرب والدفاع عنه، أو في سياق تحمل تبعات الحرب والإصرار على مواصلة العيش في البلد؟
لا شك في أنَّ ثمة مداخل تحليل وتفسير عديدة في هذا الباب، لكن يجب ألا يفعل ذلك عن الدينامية الرئيسة في كل ذلك وهي الانتماء والولاء لمعنى الوطن وروح الشعب والإصرار على مواصلة العيش في سورية أو ارتباطاً بها. ولو أن التوصل إلى تقديرات أكثر يقينية أو موضوعية يتطلب إجراء دراسات أكثر تركيزاً وتعمقاً وتخصصاً، بما في ذلك المسوح الاجتماعية وتحليل التفاعلات ونظم القيم الاجتماعية والسياسية وغيرها.
- مدارك واستجابات متباينة
لكن كل ما ذكرناه عن الإيمان بالوطن، يمكن أن يكون موجوداً، وهو موجود حقاً لدى كثيرين، ممن قدموا –كما سبقت الإشارة– آلاف الضحايا/الشهداء في حرب لم يكن معروفاً إلى أين ستصل بهم؛ لكن الانتماء للوطن ربما هو في حالة "كمون" أو "خمول" أو "عدم تعيين" لدى آخرين، عطلته أو شوشته إكراهات الحرب، وربما كان الأمر كذلك قبل الحرب وذلك لأسباب مثل: إخفاق السياسات الداخلية، وربما الإخفاق في فهم التغيرات الإقليمية والدولية وفي تدبُّر استجابة فعالة حيالها.
غير أن مدارك الانتماء ربما كانت غائبةً أو مشوهةً بالفعل، وبخاصةٍ لدى شريحة قد تكون كبيرة من السوريين، ممن "ارتموا في أحضان الخصم"، أو "تخلوا" عن كونهم سوريين، أو "أخطأوا" في فهم هويتهم وعيش كونهم سوريين، أو في قراءة اتجاهات الحرب، فاتخذوا قراراً متعجلاً وارتجالياً ومغامراً، إما بالانضمام للجماعات المسلحة في مواجهة النظام السياسي والدولة، أو التخلي، أو إرجاء أمرهم إلى الله أو تركه للزمن أو انتظار المنتصر!
وإذا كانت لدى السوريين مدارك وتطلعات واحتياجات متناقضة، فهذا أمر مفهوم في ظل الحرب، وتأثيراتها وإكراهاتها وتداخلاتها الكثيرة، لكنه مصدر تهديد، ولعل أول وأقرب ما يحتاجونه على هذا الصعيد هو تقصّي مصادر ذلك التناقض والاختلاف والعمل على تكييفها وربما إعادة بناء فضاء ثقافي اجتماعي قيمي يجعل كل ذلك نوعاً من التنافس والمداولة وحتى الصراع السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي، إلخ، في إطار وطني.
خاتمة
لعل أكثر اللحظات صعوبة هي أكثرها خصوبة، إذ تتفتح الأسئلة والممكنات، وتتغير حدود وشروط التفكير، وأنماط الاستجابة للتحديات، وهذا ما يفترض أن يحدث للسوريين بعد صدمة اندلاع الحرب، وبعد مضي سنوات عليها؛ لكن المفارقة أن هذا لا يحدث أو أنه لم يحدث حتى الآن، أو أنه لم يكن على مستوى التحدي.
من سمات هذا المشرق الجميل أنَّ العناوين الكبيرة والآمال العريضة عادة ما تنتهي إلى كارثة، وإن لم تفعل، فقد تُحبِط وتُقعِد الرعية أكثر مما تُحَفِّزها وتُنهِضها ، أو تجعلها في حالة انتظار، أو حالة تخلٍّ، كما لو أن الأمل مَفسَدَة بالفعل، أو أن اتضاح الحاجة إلى أمر ما يجعله أبعد، فيما البداهة تقتضي العكس، أي تجعله أقرب؛ ما يحدث في الواقع هو خلاف قول ماركس من أن الوعي بالشيء يعني أنه ممكن أو قريب؛ ولكن السياسة – وهذا ما نكرره– هي هكذا، لا ميزان لها من خارجها، ميزانها هو أن كل شيء ممكن.
ما يحتاجه السوريون أو ما يواجهونه من تحديات اليوم هو: توقف الحرب، واستعادة الأمن، وبناء السلام، وإن لم يكن فـ "تكييف" الظروف و"التكيف" معها؛ وإن لم يفعل السوريون شيئاً بخصوص ما يحتاجونه، فهل يمكنهم البدء فيه؟
إن السؤال عما يحتاجه السوريون أو ما يواجهونه من تحديات اليوم، ربما فتح (أو انفتح على) مفردات وموضوعات هي أسئلة أكثر منها إجابات، وقد لا يُطلب من السؤال أكثر من ذلك، أي أن يولد المفارقات، ويكشف عن الالتباسات، ويشرع للمزيد من الأسئلة، وحسب هذه الورقة أنها حاولت ذلك!
الاقتصاد اليوم
تعليقات الزوار
|
|